اخبار محلية

قوة دولية غير مسلّحة إلى بيروت!

المصدر: المدن

من 10 حزيران إلى 6 تموز 2021، صدرت عن المسؤولين الفرنسيين مواقف لا يمكن التعامل معها إلا بوصفها مؤشرات، ولو ضعيفة، لتَبَلْوُر اتجاه غربي جديد في إدارة الانهيار اللبناني. قبل شهر، فاجأ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، اللبنانيين بإعلانه عن مسعى دولي متعدد الأقطاب يُراد منه إدارة الانهيار من خلال “نظام تمويل (خاضع) لقيود دولية” وذلك من أجل “تمويل أنشطة (خدمات عامة) أساسية ودعم الشعب اللبناني (…)”. ومنذ أيام، أوصت “بعثة تقصي الحقائق حول الاستقرار في الشرق الأوسط”، المكوّنة من برلمانيين فرنسيين، خلال اجتماع لجنة الدفاع في الجمعية الوطنية الفرنسية، بـ”نشر قوة عملياتية دولية تحت إشراف الأمم المتحدة والبنك الدولي، من أجل تعزيز الأعمال الإنسانية (الغذاء، الأدوية، الرعاية الصحية، المدارس…) والأعمال التنموية (مياه، كهرباء…)”.

توضيح فرنسي

هذه التوصية أثارت ضجيجاً في بيروت بسبب اللغط في تأويل أبعادها. حسناً فعل النائب الفرنسي، غويندال رويار (Gwendal Rouillard)، عندما أوضح في حديث لصحيفة “لوريون لوجور” الفرنكوفونية يوم السبت، ولقناة “أل بي سي” مساء الجمعة، أن المقصود هو “قوة عملياتية دولية إنسانية ومدنية”، أو بمعنى آخر “وكالة تنسيق لتعزيز العمل الإنساني والإنمائي في لبنان”، من دون أن يكون هناك أي “بعد عسكري” للمهمة المقترحة. الحسابات الفرنسية (غير الرسمية) واضحة. تدهوُر الوضع الإنساني في لبنان بسبب تسارع وتيرة الانهيار وصولاً إلى الارتطام الكبير، يستدعي تغييراً في “نطاق التدخل” الدولي، حسب توضيحات رويار؛ من هنا “الحاجة لأداة عملياتية” لديها الأهلية الكافية للتصدي للتحديات الخطيرة المنتظرة.

تعديل “نطاق التدخل”؟

صحيح أن هذا الكلام قطع الطريق على أي اعتقاد بأن هناك استعدادات، الآن، لإرسال قوات دولية إلى لبنان، أو لتوسيع نطاق عمل قوات “اليونيفيل” ليشمل كل الأرض اللبنانية. لكن منطق التفكير الفرنسي الذي يدعو اليوم إلى أن يكون هناك “نطاق تدخل” مفصّل على قياس الوضع المتدهور، هو نفسه يمكن أن يدعو غداً إلى تعديل “نطاق التدخل” من جديد في حال تغيّرت طبيعة المخاطر بالمستقبل. بهذا المنحى، مجرد أن تُشرف الأمم المتحدة على “تدخل دولي إنساني مدني” اليوم، لتأمين بعض الخدمات العامة، لأن وضع لبنان بات يقتضي ذلك، فما الذي يمنعها من الانتقال غداً، إلى طرح فكرة تدخل ذي بُعْد عسكري، إذا تدهور الوضع الأمني وانعدم الاستقرار؟

ماذا لو فشل دعم الجيش؟

هنا، تتضمن التوصية التي رفعتها “بعثة تقصي الحقائق” البرلمانية الفرنسية، إجابة مسبقة لا يمكن تجاهلها. فهي “تشجع فرنسا وشركاءها العرب والغربيين على دعم الجيش وقوى الأمن الداخلي من أجل تجنب انهيارهما ومن أجل متابعة تنامي قوتهما العملياتية بوجه داعش وتهديدات أخرى (كتجارة المخدرات…)”. من المنطقي حصر مهمة التصدي لأي تهديد أمني بالجيش وقوى الأمن الداخلي فقط. لكن أليس ذلك مشروطاً بنجاح مسار الدعم الدولي الهادف إلى الحفاظ على هاتين المؤسستين الوطنيتين وعلى دورهما في زمن الانهيار؟ في حال حقق هذا المسار الدولي غاياته، يمكن بالتالي لـ”القوة الدولية العملياتية، المدنية” أن تعمل على الأرض اللبنانية في المجالات الإنسانية والإنمائية، بالاتكال على القوى العسكرية والأمنية الوطنية، من دون الحاجة إلى قوات عسكرية دولية. لكن ماذا لو فشل الجيش والأجهزة الأمنية في الاضطلاع بمهام ضبط الأمن وردع التفلّت المليشياوي المحتمل؟ هل سيتم “الاستسلام” للفوضى والاكتفاء بالحصول على ضمانات أمنية من قوى الأمر الواقع لحماية “فرق العمل الدولية” في مجالات الإغاثة والمساعدات الإنسانية؟

الإجماع الأممي.. واللبناني

لاستسلام كهذا مبرراته المشروعة. فأي تحرك أممي جديد، أو أي تعديل في طبيعة دور الأمم المتحدة في لبنان، يحتاج أولاً إلى توافق الدول الأعضاء في مجلس الأمن، خصوصاً الدول الخمس التي تتمتع بحق النقض. وعندما تخرج إلى العلن توصية فرنسية ببلورة صيغة معيّنة من أجل تدخل دولي إنساني وإنمائي تحت إشراف الأمم المتحدة في بلد مثل لبنان، فمعنى ذلك أن الفرنسيين يفترضون ويشترطون مسبقاً حصول إجماع أممي على هذا التدخل. من جانب آخر، يدرك الفرنسيون تمام الإدراك أن هناك شرطاً ثانياً ضرورياً لفتح الطريق أمام “القوة الدولية العملياتية”، المدنية (أو العسكرية)، يتمثل في حصول إجماع لبناني داخلي على خيار كهذا. فهل أن الطرح الفرنسي غير الرسمي هو عبارة عن “جس نبض” للاعبين الدوليين والإقليميين والمحليين، أم أنه يأتي في سياق ترتيبات محددة تم التوافق عليها بين الغرب وروسيا، وستفرض نفسها على إيران وحليفها حزب الله؟ وأين المملكة السعودية من كل ذلك؟ هل من الممكن أن تنخرط الرياض، كما يأمل الغربيون، في تغطية وتمويل عملية تدخل دولي إنساني، مدني، من دون حصولها مسبقاً على ثمن أو مكسب سياسي، يبرر لها تعديل سياستها اللبنانية، إذا كان هناك من تعديل ما يلوح في الأفق؟

تكرار تجربة 2004 من دون استفزاز

سيناريو كهذا يفترض وجود دينامية غربية ــ عربية ــ دولية تتطلع إلى تكرار تجربة عام 2004، ولكن بأسلوب غير استفزازي هذه المرة. فعودة الحرارة إلى التنسيق الفرنسي ــ الأميركي بشأن لبنان يذكّر بما جرى عام 2004، حين تعاونت باريس وواشنطن وساهمتا في صدور القرار 1559، الذي طالب بانسحاب الجيش السوري وتسليم سلاح المليشيات (حزب الله ضمناً). لم يكن ذلك ممكناً لولا امتناع روسيا حينها عن فرض “الفيتو” في مجلس الأمن. ويبدو أن فرنسا التي تصرّ على تموضعها الوسطي في الشرق الأوسط وتتمسك بـ”دبلوماسية الوساطة”، تتطلع إلى بلورة توافق أممي بشأن تدخل دولي “مُدَوْزن” بدقة، ليكون تحت سقف مقبول وغير استفزازي بالنسبة لحزب الله. ثمة مثل قد لا يكون ذات أهمية كبيرة ليُبْنى عليه، لكن لا يمكن التغاضي عنه أيضاً. يتعلق الأمر في إرسال قوة تابعة لـ”اليونيفيل” إلى بيروت، أواخر أيلول 2020، بشكل مؤقت، من أجل “مساعدة السلطات اللبنانية في جهود التعامل مع تداعيات تفجير المرفأ في 4 آب”. ألم يكن ذلك التحرك المحدود بمثابة “جس نبض” لحزب الله؟ وأي تحرك آخر، محدود أيضاً، هل سيُقابل بغير اعتراض لفظي من الحزب ووسائل إعلامه؟ أم أن التنبؤ برد فعله غير ممكن؟

بانتظار الأجوبة التي ستحملها الأيام المقبلة، تبقى الحقيقة أن الدبلوماسية الفرنسية تعرف جيداً أن أي طرح بديل، غير توافقي، ومن خارج الأمم المتحدة، سيُعيد إلى الأذهان تجربة “القوات المتعددة الجنسيات” بين عامي 1982 1983، التي انتهت آنذاك بمأساة، وبهزيمة أميركية وفرنسية في لبنان أمام إيران وسوريا وحزب الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى