منوعات

كبار السن … حفاظاً على كرامتهم رغم غدر الزمن وضيق العيش

“أنا رجل تجاوزت الخامسة والسبعين من عمري، وتقاعدت من مهنتي منذ زمنٍ طويل. أعيش حالياً في منزلي ولدي من يساعدني في تدبير أموري المنزلية، كما يزورني أبنائي بشكلٍ يومي. لديّ راتب شهري بالإضافة لمدخراتي، كما تساعدني الحكومة ضمن برنامجها لدعم كبار السنّ. أكتب مذكراتي حالياً وأخطط لزيارة الأماكن السياحية التي لم يكن يسمح لي عملي بزيارتها في السابق، وأفرح لرؤية أبنائي وأحفادي من حولي”.

قد تبدو هذه السيرة الذاتية القصيرة مألوفة ونمطية لدى الكثير من الشعوب، ولكنها ترقى إلى الخيال المحض لو نُسِبت إلى مسنّ يعيش في بلداننا، لغياب الدعم الشامل والاهتمام الفاعل بكبار السنّ، ولانعدام قدرتهم الذاتية على تأمين حياة كريمة بعد تقاعدهم أو بلوغهم عمراً معيّناً.

إنّ المعاشات التقاعدية وأشكال الحماية الاجتماعية الأخرى مثل الرعاية الصحية الاجتماعية هي حقّ للجميع، وتضمن العيش بأمان وكرامة لكبار السنّ في معظم الدول المتقدّمة، لكن هذا ليس هو الحال في لبنان حيث تستفيد قلّة قليلة من تقديمات التأمينات الاجتماعية. فلقد تضرّر كبار السنّ بشدّة بسبب الأزمات، وإنّ ارتفاع معدّلات الفقر والبطالة في لبنان جعل من الصعب جدّاً على معظم الناس تلبية احتياجاتهم الأساسية، ممّا أثَر بصورة خاصة على صحة المتقدّمين في السنّ وعلى وضعهم الاجتماعي، سواء كانوا مواطنين أم لاجئين.

فقد انعكست الأزمة الاقتصادية اللبنانية وانهيار العملة الوطنية بشكلٍ خطير على الفقراء والمهمّشين والمشرّدين والمتسوّلين في الشوارع الذين يمدّون يدهم طالبين كسرات الخبز وبقايا الطعام وفتات المال من المحسنين، ومعظمهم لم يكن يتمنى أن تكون سنواته الأخيرة على هذا الشكل، خصوصاً أنهم في مرحلة عمرية حرجة وبحاجة لرعاية واهتمام وتغذية مناسبة كي يتّقوا الأمراض والمصير البائس.

الأرقام والقوانين تزيد الواقع صعوبةً!

يشكّل كبار السنّ في لبنان، بحسب ما ورد في تقرير “المؤسسة الدولية لكبار السنّ”، 11% من سكان البلاد، مع أمد أعمار يصل إلى 78 عاماً للرجال و82 عاماً للنساء، وهي نسبة تُعدّ الأعلى بين الدول العربية. إلّا أنّ لبنان لا يزال من أضعف البلدان في المنطقة في تأمين الحماية الاجتماعية لكبار السنّ، إذ يعتمد حوالي 80% منهم على أسرهم للحصول على الدعم المالي، أو على مدّخراتهم التي فقدت قيمتها، هذا إن وجدت. كما أنّ معظمهم لا يتلقّى أيّ معاش تقاعدي أو دعم مالي من الدولة على الإطلاق.

وكانت دراسة أجرتها “الدولية للمعلومات” سنة 2019 كشفت أنّ عدد المسنّين الذين تجاوزوا سن الـ 64 يبلغ 445 ألف شخص من المواطنين واللاجئين المسجلين، وقد تمّ تقسيمهم إلى أربع فئات: 67 ألفاً ليس لديهم الأساسيات بما فيها الغذاء؛ 200 ألف ليس لديهم الأساسيات من ملبس ومسكن؛ 165 ألفاً لديهم حاجات الحياة الأساسية؛ و13 ألفاً من الأثرياء.

يشير تقرير صادر عن “المؤسسة الدولية لكبار السنّ” ومنظمة العمل الدولية بعنوان “صرخة أمل وألم” إلى أنه مع انهيار أنظمة الدعم والرعاية التي اعتمد عليها كبار السنّ في الماضي، سواء من خلال البرامج الحكومية أو القطاع الخاص أو المنظمات غير الحكومية أو الشبكات الأسرية، وجد العديد منهم أنفسهم من دون أيّ مصدر للدخل، أو باتوا مجبرين على العمل حتى بعد سنّ التقاعد.

وفي شهر أيلول الماضي، أشار تقرير لمنظمة “الإسكوا” إلى أنّ الفقر تفاقم في لبنان إلى حدٍّ هائل في غضون عام واحد فقط، إذ أصبح يطال 74% تقريباً من مجموع السكان. وإذا ما تمّ أخذ أبعاد أوسع من الدخل في الاعتبار، كالصحة والتعليم والخدمات العامة، تصل نسبة الذين يعيشون في فقر متعدّد الأبعاد إلى 82%.

يفسّر هذا الواقع انتشار كبار السنّ في الطرقات وتوزّعهم في الشوارع الرئيسية والفرعية، وأمام المحلات التجارية وأماكن العبادة وغيرها، ويجعل منه نتيجة منطقية لتردّي الوضع الاجتماعي. وقد يكون من الصعب تحديد الأعداد ما بين المواطنين واللاجئين، ولكن الأكيد أنه كباراً في السنّ من الطرفين يقبعون في الشوارع طيلة النهار، منهم قد يعود لمكانٍ ما يأويه، ومنهم يفترش الطريق الذي تحوّل إلى منزله بعد أن أصبح وحيداً أو “مقطوع من شجرة” وفق التعبير الشعبي. ففي ظل الانهيار الاقتصادي، إنّ البرامج الحكومية، إن وجدت، هي غير كافية لتشمل أعداد المسنّين المتسوّلين والتي هي إلى ازدياد يوماً بعد يوم. حتى أنّ مشروع قانون ضمان الشيخوخة لا يزال يتنقل في أروقة المجلس النيابي منذ العام 2004. ومن المقرّر أن يتمّ تحويله بصيغته المعدّلة إلى الهيئة العامة للمجلس لكي يقرّه مجلس النواب الجديد، ما قد يحوّل تعويض نهاية الخدمة إلى معاشٍ تقاعدي. ومن المفترض أن يشمل هذا الإجراء نصف مليون عامل لبناني في لبنان، كما سيفتح أمام نحو 400 ألف لبناني يعمل في الخارج إمكانية الانتساب له، مما يقلّل نسبة المسنّين اللاجئين إلى الشوارع لكسب رزقهم. كما يكثر الحديث عن سنّ قوانين وإطلاق برامج  جديدة من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية، مثل برنامج مساعدة الفقراء للتخفيف من هذه الظاهرة تدريجياً… احتمالات كثيرة يتمّ التداول بها ولكن مع … وقف التنفيذ حتى توفّر الموارد والإمكانيات.

حياتهم عذاب

تؤكّد منظمات المجتمع المدني أنّ أعداد كبار السنّ المنتشرين في الطرقات والأماكن العامة في بيروت وباقي المدن اللبنانية قد تضاعفت بصورة لافتة مع انهيار الوضع الاقتصادي، وارتفاع نسبة الفقر والبطالة. وهي عوامل أثّرت أيضاً على حجم المساعدات التي اعتاد أن يقدّمها المارّة من باب التعاطف، فيما أصبح كثيرون منهم يمتنعون من تقديم المساعدة على اعتبار أنّ الحالات قد تكون مزيّفة لا سيّما بعد انتشار قصة المليونيرة المتسوّلة وفاء محمد عوض التي تبيّن أنها تملك حساباً في المصرف بقيمة مليار و250 مليون ليرة لبنانية، علماً أنّ أهالي مدينة صيدا كانوا مقتنعون أنها متسوّلة معدومة الحال لا تملك ما تسدّ به جوعها.

إلّا أنّ هذه القصة لا تشبه قصة العم وفيق وهو لاجئ سوري عمره 78 عاماً نزح مع ابنه وحفيده إلى لبنان منذ سبعة أعوام من محافظة حمص السورية بسبب الحرب وأهوالها. استأجروا غرفةً في العاصمة على أن يكفي أجر ابنه الذي يعمل في البناء، لسداد الإيجار ولتأمين قوتهم اليومي. لكنه خسر الإبن حياته إثر وقوعه من أعلى مبنى قيد الإنشاء، ورفض رب العمل دفع أيّ تعويض لوالد الفقيد وابنه.

يقول العم وفيق: “بعد وفاة ابني، ساعدنا أبناء الحلال لنتدبّر أمرنا قليلاً، ولكن وضعنا أصعب بكثير، فأنا لا أستطيع العمل في هذا السنّ، وحفيدي لا يتجاوز العشرة أعوام ولم يدخل إلى المدرسة. ورفض صاحب الغرفة أن نبقى فيها بعد تخلّفنا عن دفع الأيجار لثلاثة شهور متتالية، ما جعلني أقبع في شارع الحمرا ليل نهار أنا وحفيدي الصغير”.

يجلس العم وفيق في شارع الحمرا نهاراً، يبيع بعض المواد الغذائية البسيطة أو الكمامات، ويفترش ركناً عند حلول الظلام لينام هو وحفيده صيفاً شتاءً … إلى أن صادفه أحد العاملين في وزارة الشؤون الاجتماعية وأمّن له مساعدة من ضمن برنامج الوزارة لمساعدة الفقراء.

“110 دولارات شهرياً لا بأس بها، تسدّ قليلاً من حاجتنا. ففي ظل الوضع الاقتصادي الصعب، تحتاج العائلة اللبنانية إلى ما لا يقلّ عن 20 مليون ليرة شهرياً، هذا من دون طبابة، فقد أصبح الموت أسهل من المرض وتأمين فاتورة الاستشفاء. ولكن ساعدني هذا المبلغ على الانتقال إلى غرفة صغيرة أعيش فيها وعلى تأمين الاحتياجات الأساسية. وأتواصل الآن مع جمعيّات لتساعد حفيدي في الدخول إلى المدرسة والتأمين عليه بعد موتي”.

تحت جسر “الكولا” يقع منزل السيدة أمينة. ليس منزلاً تقليدياً. لا جدران له، وسقفه السماء. فقد اتخذت السيدة أمينة من الشارع بيتاً لها بعد أن هربت إلى بيروت من نيران الحرب في سوريا قبل تسعة أعوام. تصف نفسها بأنها “مقطوعة من شجرة” وتضيف: “عمري الآن تجاوز الثمانين بقليل، لا أعرف لا القراءة ولا الكتابة وأنا غير قادرة على العمل. تنقلّت كثيراً ولكن القدر أوصلني إلى هنا. يساعدني بعض المارّة ببعض الأموال التي توفّر لي الطعام والشراب وبعض الأدوية، فأنا مصابة بمرض السكّري منذ سنوات. كما يعطف عليّ أهل المنطقة لأنهم يعرفونني … أنتظر اللحظة التي أموت فيها كي ألتقي بوالدي ووالدتي وسوف ألومهما حينها على إنجابي”.

سألنا السيدة أمينة عن سبب عدم تواصلها مع وزارة الشؤون الاجتماعية أو الجمعيّات والمنظمات التي تساعد أمثالها، فأجابت بأنها لا تعلم بهذه الأمور، وتتمنى لو نستطيع مساعدتها أو إبلاغ الجمعيّات بحالتها…

على بعد أمتار من “بيت” السيدة أمينة، تقف امرأة لبنانية. للوهلة الأولى، لا يمكن لأيّ إنسان أن يتوقّع أنها تنتظر حسنةً من أحد، فهي ترتدي ملابس “أنيقة” وتحمل في يدها حقيبة، تنتظر مرور الأشخاص لتقترب منهم وتطلب على استحياء المساعدة. ترفض البوح باسمها قائلةً: “أنا ابنة بيروت. سبق وانفصلت عن زوجي. لديّ ابنة واحدة متزوجة ووضعها المادي معدوم، لا تعلم هي وأهلي أني أتسول، فهذا الأمر بالنسبة إليهم كارثي”.

وتضيف: “لم أكمل تعليمي كوني تزوّجت في سنٍ مبكرة. آخر ما كنت أتوقّعه أن يغدر بي زوجي ويطلّقني، لأعمل بعدها في محل لبيع الزهور. لكن بعد الانهيار الاقتصادي تمّ تسريحي من عملي، وبالتأكيد، لن أتمكن من العثور على وظيفة وأنا في عمر الـ 66. وبعدما ضاق بي الحال وتعثّرت لأشهر عن دفع بدل إيجار الغرفة التي أسكنها، اتخذت أصعب قرار وهو النزول إلى الشارع بحثاً عن الرزق، وذلك بانتظار الموت الذي أصبحت أتمناه. وأنا أرفض التواصل مع أيّ جمعيّة أو منظمة لمساعدتي لأني أخاف من الفضيحة أو من ردّ فعل ابنتي وعائلتنا”.

برامج مساعدة وعلاج برعاية الجمعيّات والمنظمات

يعمل العديد من المؤسّسات الحكومية والجمعيّات والمنظمات غير الحكومية المحلية منها والدولية على مساعدة كبار السنّ المحتاجين، وذلك عن طريق تقديمات مادية أو عينيّة، أو حتى تأمين الإقامة أو العلاج والأدوية، وذلك ضمن برامج تستهدفهم. كثيرة هي الحالات المشابهة لتلك الواردة في هذا المقال وقد انتقل عدد من كبار السنّ المحتاجين من العيش و/أو التسوّل في الشارع إلى أماكن حماية أو إلى منازل عادية وهم يتلقّون المساعدات التي تكفيهم للعيش أو لتأمين قوت يومهم مع متابعة طبية أو علاج مستمر.

يمكن التواصل مع وزارة الشؤون الاجتماعية وذكر الحالة وذلك للحصول على المساعدة، فيتمّ تحويل الشخص المحتاج للمساعدة إلى البرنامج المناسب من خلال الرقم (+9611611260/4)، أو إلى الهيئة الوطنية الدائمة لرعاية شؤون المسنين.

كما أنّ مؤسسات عديدة تعمل على إيواء المسنّين غير القادرين على تأمين نفقات الإقامة والسكن مثل “مؤسسة العمر المديد” التابعة لـ”دار الأيتام الإسلامية” (+01824961)، ونادي العمر المديد (+01313008)، بالإضافة لـ”مستشفى دار العجزة الإسلامية” (+01856658)، و”بيت القديس جاورجيوس” (+01584951). كما يقدّم بعض المؤسسات خدمات طبية وعلاجية للمسنّين غير القادرين على تسديد النفقات الطبية والاستشفائية مثل جمعية “أجيالنا” (+01304479)، و”المركز الرعائي الشامل” (+01334086)، و”رابطة أبناء بيروت” (+01700704). كما يمكن التواصل مع وزارة الشؤون الاجتماعية لبقيّة المناطق والمحافظات للحصول على عناوين وأرقام هاتف الجمعيّات والمؤسسات المنتشرة في مختلف المناطق.

اًيضاً، يحظى كبار السنّ من اللبنانيين واللاجئين السوريين بمساعدة جمعيّات ومنظمات تنفذ برامج خاصة بالمسنّين تطلقها بشكلٍ دوري، مثل “اللجنة الدولية للإنقاذ” (IRC) التي يمكن التواصل مع القيّمين عليها على على الرقم (76784164)، ومنظمة “أوكسفام” على الرقم (71525203)، ومركز “كاريتاس لبنان” على الرقم (01499767)، و”الهيئة الطبية الدولية للرعاية الصحية” على الرقم (70973248).

إذا ما مشيت في أحد الشوارع اللبنانية لابدّ أنك قد صادفت يوماً رجلاً أو سيدة في انتظار مساعدة من أحد. قد تختلف قصصهم وحالاتهم، ولكن ارتفاع عدد المتسوّلين له علاقة مباشرة بارتفاع نسبة الفقر والبطالة وغلاء أسعار السلع والمواد التموينية، أي بالأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العامة. بعض المارّة يقدّمون لهم ما تبقّى من طعام بيدهم أو بعض المال: يرفع المتسوّل يديه باتجاه السماء شاكراً، يبتسم المحسن وهو يراقب حركات المتسوّل … ولكن هذا ليس الحل. فالجهود الرسمية متمثلةً ببرامج ناجعة وقوانين مطبَّقة، معطوفةً على عمل الجمعيّات والمنظمات، تمهّد لوضع حدّ لهذه الظاهرة وتأمين حياة كريمة لكل إنسان لا سيّما من تقدّم به السنّ، بانتظار … الحل الأشمل للأزمة التي يرزح تحت وطأتها … شعبان وأكثر، بشبابهم وشيبهم.

المصدر: كتابة شارل عبد العزيز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى