أيّ سمك تأكلون؟
كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
«”على أونا على دوّي”»… واشترينا سمك الغبص والجربيدي والبزري. سمك الفقراء يقال عنه. أما الأغنياء فعيونهم في مزاد السمك اليومي في مرفأ الصيادين (ما عدا الإثنين) على اللقز والسلطان. عالم السمك كبير ومليء بالأسرار. نقف قليلاً قبالة البحر في مرفأ الصيادين في الدورة نراقب القوارب الراسية ونحدّق في المياه قبل أن ندخل إلى المزاد العلني لاستكشاف حال الثروة السمكية اليوم في لبنان. فهل حالها مثل حال البلاد والعباد: تعتير؟ تعالوا نتعرف معاً.
يتحلّق رجال حول طاولة المزاد قبل أن يبدأ. الصيّادون وصلوا من البحر باكراً. قسّموا ما حصدوه في علبٍ، كيلو، كيلوان، كيلو وأوقية، ووضعوه مع تحديد الوزن: سردين وبزري وكركند وأخطبوط وقريدس وغبص وسرغوس وسلطان صخري وعفريت ولقز رملي وصخري… مشهد يجذب محبّي المأكولات البحرية. كلّها طازجة. في نقابة الصيادين في مرفأ الدورة كل شيء (على ذمتهم) طازج. في تمام الساعة الثامنة والنصف صباحاً تحلّق كلّ الموجودين حول الطاولة وانطلق المزاد: على أونا على دوّي كيلو ونصف غبص بثلاثمئة ألف ليرة، بمئتي ألف ليرة، بمئة وخمسين ألفاً. وقبل أن نرفع يدنا أصبح الغبص من حظ رجل مسنّ وصل باكراً ورسا عليه مزاده. هناك من أصبحوا ملمّين بهذا المزاد اليومي، باستثناء يوم الإثنين، يأتون للشراء أو حتى لـ»الفرجة». محبّو السمك لديهم مهمة أصبحت شبه يومية. وهناك تجّار وأصحاب مسامك يأتون للشراء بالمزاد ويبيعون السمك بأسعار مضاعفة في خارج التعاونية. أصحاب المطاعم «الكلاس» عينهم على اللقز. هم زبائن مياومون أيضاً. تكسير أسعار. وأكلة السمك أرخص من اللحم والدجاج. يكرج المزاد أمام أعيننا. والقريدس- لمحبّيه – موجود. والبزري، باب أول، طازج أُخرج للتوّ من البحر أيضاً موجود. الكيلو الواحد بمئة وخمسين ألفاً وهو غير خاضع للمزاد. فطالِبوه كثر وكميّته قليلة.
زبائن مياومون
في غرفة جانبية يجلس نقيب الصيادين في مرفأ الدورة جان شواح. هو مثل نبيه بري ما عاد يتذكر متى انتخب، منذ ثلاثين عاماً وأكثر. يضحك النقيب وهو يخبرنا ذلك. هو ملمّ جداً في شؤون البحر والسمك في البحر وعلى الطاولات وفي كل ما يتعلّق بشؤون الصيادين في لبنان وكم هي- كما كل الشؤون- كثيرة. أصوات الصيادين عالية «هكذا هو عالمهم». نرى النقيب يجول بينهم ويقول «تخضع الأسعار الى العرض والطلب. الأسماك الغالية مثل اللقز والسلطان تشتريها المطاعم الفخمة. وهناك زبائن مياومون. نرى وجوههم منذ خمسة عشر عاماً. أصبحوا، بحكم الخبرة، ملمّين بالسمك أكثر من صيادين كثيرين. السمك هنا طازج مئة في المئة. والزبون يعرف ماذا سيشتري وكم سيدفع. متوسطو الحال، ومن هم أقل من متوسطي الحال، يقصدون أكثر سوق الكرنتينا للأسماك (السوق الشعبية المؤقتة في الكرنتينا). هناك يجدون المبرد والمثلج والمستورد أما البلدي فبكميات أقل. هنا لن يجدوا إلا الطازج. ننظر حولنا، الى يسار مرفأ الصيادين في الدورة فتصطدم أعيننا بجبل النفايات في الدورة والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تناول السمك البلدي آمن؟ يجيب النقيب شواح بجواب يراه بسيطاً: «تسمعون بأشخاص تسمّموا جراء تناول اللحوم والأجبان والألبان لكن هل سمعتم بأناس تسمّموا جرّاء تناول السمك؟ هذا بحر. هناك أمواج وتيارات والصيادون لا يأتون بالسمك بالقصبة بل ينتقلون بعيداً. سمك اللقز الموجود اليوم في التعاونية أتى به صياد إنتقل في البحر ثلاث ساعات وأتى به من شاطئ الدامور. هناك صيادون يأتون بأسماكهم من الكسليك والصرفند. وأنا أتناول السمك أسبوعياً. السمكة (الطازجة) تعرفونها من عينيها ورائحتها وشكلها. نحن، حين نقلي السمك في بيتنا الشارع يشتهي في حين أن واحدة من جيراننا كلّما وضعت مقلاة السمك يعرف الجميع أن ما تقليه ليس طازجاً. رائحة السمك البائت تُشتمّ عن بعد. وليت الناس يشترونه طازجاً ويتناولونه مرة واحدة في الشهر عوض تناوله ثلاث مرات في الأسبوع بائتاً. لو كانت لدينا دولة لكانت «كسّرت» أيدي من يبيعون أصنافاً كثيرة من الأسماك على أنها طازجة. إقترحت مرة على وزارة الزراعة أن تفرض على كل مسمكة أو سوبرماركت تبيع السمك وضع ورقة واضحة بنوع السمك وسعره: طازج، مثلج، مبرد، مستورد، ليعرف المواطن ماذا يشتري ويأكل».
الغش في كل المهن كبير. اللحام (يقال) يغش أهل بيته. أما في عالم السمك فهذا صعب. أنظروا جيداً الى عيني السمكة، وتأكدوا ما إذا كانت «ملشلشة» أم لا وعندها لا أحد قادر أن يغشكم.
ماذا عن الثروة السمكية في لبنان؟ ماذا عن شؤون وشجون الصيادين في لبنان؟
في نقابة الصيادين تأكيد على لسان النقيب «أن الثروة السمكية في خطر، الى اضمحلال وانقراض وتتضرّر بشكل كبير وسريع». هل هذا معناه أن السمك سيصبح مثل العملة النادرة؟ يجيب شواح «هناك صيد جائر يحصل يومياً بشباكٍ ضيّقة، ما يقضي على السمك الصغير أيضاً. إنها شباك غير قانونية ولا أحد يراقبها. توجّهت مراراً الى وزارة الزراعة كي تشدّد مراقبتها على الجمارك، من أجل الحدّ من دخول هذا النوع من الشباك تحت عناوين وحجج واهية، بينها حماية أشجار البلح من وطاويط الليل».
ليست الشباك الضيقة الثقوب وحدها مشكلة الصيادين. نقابة صيادي الأسماك في بيروت وضواحيها تتابع- على ما يبدو- الوضع بأدقّ تفاصيله وهو، كما تعلمون، ليس «عال العال» ويقول النقيب «نقابتنا تمتدّ جغرافياً من نهر الدامور جنوباً مروراً في بيروت الى كسروان وصولاً الى نهر إبراهيم. وشاءت الظروف والأحداث أن يُنشئوا لاحقاً نقابة في الأوزاعي. الظروف السياسية (والطائفية ربما) قضت بذلك. يتابع النقيب: هناك أكثر من ألف صياد في نقابتنا يتّكلون في معيشتهم على الصيد. وهناك فئة ثانية تمتهن عملاً آخر مع الصيد. وهنالك فئة تتشكل اليوم من هواة بدأوا صيد السمك للتسلية والظروف فرضت عليهم لاحقاً أن يصطادوا ويبيعوا. زاد عدد هؤلاء كثيراً بعد ارتفاع الأسعار. وارتفع عدد من يريدون أيضاً إفادة صياد».
مطالب… دهرية
هناك مقوّمات ليكون الإنسان صياداً. هناك مقوّمات للإنتساب الى نقابة الصيادين. ويقول شواح: «لا ضمان إجتماعياً للصياد الذي يضطرّ أحياناً إلى أن يخالف ليؤمن معيشته هو وعائلته. مضى علينا ونحن نركض وراء حقوق الصيادين نحو أربعين عاماً ولا أحد يجيب. ذبحنا الخواريف أمام الوزراء الذين وعدونا خيراً لكن لم تتحقق مطالبنا. وعدونا بإدخال الصيادين الى الضمان الإجتماعي واعتقدنا أن الأمر قد أصبح بين أيدينا لكن أحد السياسيين الكبار قال إنهم يدخلون إذا تمّ دمج إنتساب المزارعين بالضمان أسوة بالصيادين. كبر حجم هؤلاء وتعرقل المشروع. لم نتفاجأ فنحن في لبنان. مرّروا ضمان السائقين العموميين الذين يتم ضمانهم على رقم اللوحة. الصيادون مالكو القوارب لديهم لوحات عمومية أيضاً ويدفعون الميكانيك فلماذا يستثنون من الضمان؟ ماذا يميزهم من السائقين العموميين؟». أسئلة النقيب ليست أجوبتها طبعاً لدينا.
يحمل الصياد الـ»بروفيشينال» تذكرة صياد بحري، مثلها مثل الباسبور، ومنذ فترة بات صعباً جداً الحصول عليها، بعد أن صدر قرار بإعطاء رواتب للصيادين الذين يضطرون الى التوقف عن العمل، أسوة بكل العالم، في مواعيد محددة من السنة. قننوا منح هذه التذاكر التي نعطيها نحن ويفترض أن يحوز مثلها كلّ هاوٍ يكون قد مضى على ممارسته هواية الصيد البحري ثلاثة أعوام».
لا تنافس بين نقابات الصيادين في لبنان بل تكامل. ويشرح النقيب «نحن جميعاً نتكلم اللغة نفسها. وهناك تعاونيات أنشئت من أجل إعطاء المساعدات من شباك وسنانير وخيطان الى الصيادين. الصيادون بحاجة أن يعيشوا حياة كريمة. هذا بات مستحيلاً في لبنان في حين أن أصغر صياد في قبرص لديه «رانج روفر» و»بي أم».
يكذبون علينا في دروس الجغرافيا حين يخبروننا عن ثروة سمكية زاخرة في لبنان ويقول نقيب الصيادين «هناك دول تملك آلاف الأميال من الشطوط الرملية مؤهلة لتكاثر الأسماك في حين لا تعدو مساحة شواطئ لبنان 225 كيلومتراً. وهناك في البحر جبال وتلال ووديان كما الجبال على اليابسة. ويستطرد: قديماً كان السمك أكل الفقير أما الآن فإذا أردتم تناول السلطان تستطيعون؟ سعر الكيلو الواحد منه مليون ليرة وطلوع.
لا ضوابط لاستيراد الأسماك في لبنان. الصيادون يطالبون بروزنامة سمكية أسوة بالروزنامة الزراعية. إنهم يطالبون بنجدة الصيادين.
المطالب كثيرة. صوت الصيادين يصدح من المسمكة. حماسة المزاد العلني تشتدّ. عالم الأسماك جميل. طعم السمك شهي. أما حياة الصيادين فسيئة ولولا السكينة التي يستمدونها من البحر لكانت المصيبة أكبر ولكان مذاق الحسك أقوى بكثير من طعم السمك.