شهر في لبنان… هل يكفي؟
عندما يقرر أي لبناني مغترب زيارة بلده الأم لقضاء فترة من اجازته في ربوعه لا يقصد بالطبع أن يمضي هذا الوقت القصير فيه كما يفعل عندما يزور أي بلد سياحي آخر.
ما قد يجده في غير لبنان قد يكون مغريًا من عدة نواحٍ، إن من حيث الخدمات أو من حيث ما يمكن أن يكون متوافرًا وغير متوائم مع الظروف، التي يعيشها لبنان، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
فالمغترب اللبناني، من أينما أتى، لا يتكبد مشقة السفر الطويل فقط من أجل السهر أو ارتياد المطاعم وتذوق الطعام اللبناني اللذيذ، أو التمتع بمناظره الخلابة، بل من أجل أمر واحد فقط لا غير. أن يرى الأشخاص الذين كانت بينه وبينهم ذكريات مشتركة، وأن يمضي معهم أوقاتًا لا يعكرّ صفاءها لا الكلام السياسي، ولا الحديث عن الهموم اليومية، التي يعيشها كل لبناني، من أقصى الشمال إلى عمق أعماق الجنوب وامتدادًا نحو السهل والجبل والساحل.فإذا أراد المغترب قضاء وقته اللبناني في الكلام السياسي فيكون في ذلك كمن يطبخ البحص، الذي يمكن أن يستوي قبل أن تنضج الحلول المعدّة للبنان نظريًا. فلذلك فإن أي كلام في ما هو عليه الوضع في لبنان يُعتبر في مكان ما مضيعة للوقت، إن لم نقل قتلًا له.
قد أكون واحدا من بين الملايين الذين قصدوا وسيقصدون لبنان هذا الصيف. لقد رأيت فيه ما كنت أعيشه قبل مغادرته غصبًا عني. ما أزعجني في زيارتي لم يكن يزعجني عندما كنت أعيش فيه. ربما يعود السبب إلى مسألة الاعتياد إلى درجة التعلق الطوعي بهذه الأشياء المزعجة، بحيث تصبح الحياة من دونها فيها شيء من الرتابة، التي يقال عنها بأنها مميتة. فلا يحلو العيش إن لم تصادفك وانت تقود سيارتك كل أنواع المفاجآت غير المنتظرة، وقد تكون مستحدثة كتكاثر “الموتوسيكلات”، التي يقودها فتيان من مختلف الجنسيات الطارئة على لبنان حديثًا.
ولا يهنأ العيش إلا عندما تصيبك الدهشة عندما تأتي كهرباء الدولة، فيصيح الجميع، وفي شكل عفوي، “إجت الدولة”. وهذا ينطبق أيضا على المياه المقطوعة، والتي لا تزور المنازل إلا في المناسبات، وقد لا تكون دائما سعيدة.ولا يحلو السهر إن لم يلعلع الرصاص مع كل موال من مواويل “سلطان زمانو”، وما أكثر “سلاطين” هذه الأيام.
ليس من أجل كل هذا قطعت الآف الأميال، وليس من أجل جلسات الأنس والطرب ، وهي أمور جميلة ومستحبة، بل من أجل أمر آخر، وهو الخوف من أن تضيع مني ذكريات الطفولة، وأن أصبح رجلا من دون ماضٍ، أو أن أضيع في هموم الحياة، التي تركض ونحن نركض وراءها.لم آت لكي آكل اللحمة النية والتبولة وشرب العرق. أتيت لكي لا أنسى، ولكي أقف في صباح كل يوم على شرفة منزلي لأشاهد طلوع الفجر. هذا الصباح في قرانا له نكهة غير شكل لا تجدها في أي مكان آخر في الدنيا.من أجل هذه اللحظات “يحرز” المشوار، وإن طويلا. من أجل أن تسمع صياح الديك الصباحي، وهو يبشرك بيوم جديد تهون معه مشقة المشوار الطويل.من أجل أن تشم رائحة الزعتر البري والطيون واللزاب والسيكون والزيزفون والياسمين يصبح الحنين والاشتياق أقوى.
هو سر فيه الكثير من السحر والالغاز وهو أن تحبه أكثر عندما تبتعد عنه.
شهر قضيته مع من أحب، عدت فيه طفلًا صغيرًا… شهر بكامله فهل يكفي لتعبئة حياتنا في الخارج بهذه الطاقة الإيجابية المستمدة من طيبة أهلي في قريتي.
الهموم كثيرة، والمشاكل أكثر، لكن إرادة البقاء والصمود تبقى أقوى.
المصدر: “لبنان 24”