منصّة صيرفة بعد رحيل سلامة إلى الإلغاء؟

على أهمية موقع الرئاسة الأولى، وتبعات الشغور فيه على كلّ مرافق الدولة، إلّا أنّ الدستور، وتحسّبًا للفراغ الرئاسي، أوجد صيغة من شأنها تسيير أمور البلاد والعباد، من خلال انتقال صلاحيات الرئاسة الأولى إلى مجلس الوزراء، وفقًا للمادة ا 62 منه. وقد شهدنا فترات شغور طويلة، أبرزها عام 2014، استمرت سنتين ونصف السنة ، فرضت جمودًا في الحياة الدستورية، ولكنها لم تُصِبْ يوميات اللبنانيين بالشلل نتيجة خلو موقع الرئاسة. أمّا لحاكمية مصرف لبنان فهناك اعتبارات أخرى، هو موقع لا يحتمل الشغور ساعة واحدة، في أيام السلم المالي، فكيف الحال بظل الانهيار الحاصل، لارتباطه بمصير النقد والتعاملات المصرفيّة اليوميّة، فضلًا عن مهمّة فرضتها الظروف الحالية، وهي طبع العملة لتسليف الدولة في عملية دفع رواتب الموظفين وتأمين الخدمات. انطلاقًا من التأثير المباشر لدور حاكم مصرف لبنان في حياة المواطنين، تتجه أنظار اللبنانيين إلى 31 تموز المقبل، موعد نهاية ولاية حاكم المركزي رياض سلامة، وعلى ألسنتهم سؤالان، الأول ما مصير الدولار بعد سلامة إذا ما انتهت ولايته والفراغ الرئاسي لا زال قائمًا؟ والثاني هل سيتمّ إيقاف منصّة صيرفة؟

بين منصّة صيرفة وبورصة الدولار ارتباط وثيق، أثبتته سياسةُ التدخل اليومي عبر المنصة بمئات مليارات الدولارات، الأمر الذي أبقى الدولار ما دون المئة ألف ليرة. أمّا مصير صيرفة فمرهون بمن سيخلف سلامة وماهية سياسته النقدية، في حال حلّ مكانه نائبه الأول الدكتور وسيم منصوري وفقًا لاحكام المادة 25 من قانون النقد والتسليف، ترجّح مصادر مصرفيّة أن يُبقي منصوري على منصّة صيرفة لأسباب عدّة، منها مواصلة استخدامها لضبط إيقاع سعر الصرف، وهناك أسباب أخرى ترتبط بتسعير العديد من الخدمات وفق صيرفة، كفواتير الكهرباء والاتصالات وغيرها، فضلًا عن رواتب القطاع العام، بالتالي سيخلق إيقاف صيرفة إرباكًا. أمّا في حال تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، قد تكون لديه سياسة نقدية وماليّة مغايرة تمامًا لتلك التي اعتمدها سلامة، وبطبيعة الحال لن يستمر العمل بمصرفة.

توقيف صيرفة دون خطة شاملة يلهب الدولار
الخبير الاقتصادي الدكتور محمود جباعي رأى في حديث لـ “لبنان 24” أنّ مصير صيرفة غير واضح، ومرتبط بما ستؤول إليه الأمور في حاكمية المركزي، هل ستمدد ولاية سلامة؟ هل سيُكلّف بتصريف الأعمال لحين انتخاب حاكم جديد؟ وإذ لفت جباعي إلى وجود اعتراضات داخل المجلس المركزي حيال صيرفة والتدخل في السوق، لكنّه استبعد إلغاءها “لا اعتقد أنّ أحدًا لديه الجرأة ليتخلّى عن منصّة صيرفة في ظل الأزمة النقدية في البلد. ومهما بغلت قيمة الأموال التي تدخل إلى البلد بالعملة الصعبة، بغياب جهة رسمية تؤمّن الدولار مثل مصرف لبنان، سيحصل ارتفاع كبير بسعر الصرف، وهذا لا يناسب القوى السياسية في البلد مع استمرار الشغور الرئاسي. لهذا أرى أنّ توقيف صيرفة بشكلٍ مفاجئ هو أمرٌ خطير، من دون أن يقترن بخطّة بنيويّة سليمة للتعافي الإقتصادي، ووجود رئيس جمهورية وحكومة أصيلة، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإعادة تكوين الودائع، كل هذه الأمور بحاجة الى حلول قبل توقيف منصّة صيرفة، لاسيّما وأنّ الدولة تسعّر خدماتها وتدفع الرواتب وفق صيرفة، لذلك أرى أنّ توقيفها أمرٌ صعب، لا بل شبه مستحيل في المرحلة الحالية”.
جدوى صيرفة: إبقاء الدولار ما دون المئة
تنقسم آراء الإقتصاديين حيال جدوى منصّة صيرفة، البعض يرى أنّها فشلت في غايتها بلجم تحليق الدولار، وكانت دومًا تلحق بسعر الصرف في السوق الموازية، كما أنّ كلفتها عالية، وتستخدم ما تبقّى من ودائع، والبعض الآخر يرى أنّ الدولار من دون صيرفة كان سيحقق قفزاتٍ كبيرةً جدًا. جباعي من جهته يقيس إيجابياتها بما يفوق سلبياتها، لجهة تهدئة مسار الإنهيار النقدي “بدليل أنّ الدولار في منتصف آذار الماضي تجاوز عتبة الـ 140 ألف ليرة، وكان سيكمل مساره التصاعدي بظل استمرار الأزمة السياسية وعدم قدرة الدولة على تحصيل ايراداتها بالدولار. تمكّنت صيرفة منذ آذار وحتّى يومنا من ضبط السوق وإبقاء الدولار دون المئة ألف، من خلال ضخ ما يقارب الـ 130 إلى 140 مليون دولار يوميًا كحدّ وسطي. هذا الواقع خلق نوعًا من الاستقرار في سعر الصرف، بحيث أنّ معظم حاجات السوق سواء للافراد أو لكبار الشركات تؤمّن عبر صيرفة، علمًا أنّ حجم الإستيراد ما زال مرتفعًا بحدود مليار و500 مليون دولار شهريًا. وهناك عوامل أخرى إلى جانب صيرفة ساهمت بزيادة العرض، منها أنّ الناس باتت تدفع ثمن حاجاتها في السوق بالدولار، بنسبة تتراوح ما بين 70 إلى 80%، إضافة إلى قرار وزير المالية باستيفاء 75% من قيمة الرسوم والضرائب نقدًا بالليرة اللبنانية.”

كلفة مرتفعة ولكن
عن كلفة صيرفة والخسائر التي يتكبّدها مصرف لبنان يوميًا من خلال صيرفة، لفت جباعي إلى أنّ المركزي يشتري الأموال من السوق، المتأتيّة من تحويلات المغتربين التي تقدّر بحوالي 6.4 مليار دولار سنويًا، فضلًا عن الأموال التي يُدخلها المغتربون باليد، بمقدار 1.5 مليار دولار، وعائدات الموسم السياحي، وما تدخله بعض الأحزاب من دولار إلى البلد، وأموال (NGOs)، كل هذه المصادر تجعل مصرف لبنان يجد سوقًا ناشطًا يشتري منه الدولار. لكن الأمر ليس من دون كلفة، بل يتكبّد خسارة يوميّة بين 8 و 10% من جرّاء الفرق بين السعر الذي يشتريه من السوق والذي يطرحه عبر المنصّة، وتتراوح الخسارة بين 10 و 14 مليون دولار يوميًّا، بما يوازي 350 و 400 مليون دولار شهريًّا، ولكنّها تبقى مقبولة قياسًا بالخسارة المرجّحة أمام انهيار كبير لسعر الصرف، من شأنه أن يقضي على التوازن الإقتصادي الذي تمّ خلقه في الفترة الاخيرة، بفضل نجاح المنصّة بتأمين استقرار نسبي في سعر الصرف”.
جباعي يرى أن إيقاف المنصّة لأي سبب، من دون حلول شاملة، سيجعل الدولار يحلّق بشكل صاروخي وبأرقام قياسية وغير مسبوقة.
بالمحصّلة نحن أمام أسابيع حاسمة، والفراغ سيرتدّ سلبًا على مواقع نقدية وأمنية في الأشهر القليلة المقبلة. واقعٌ يضعنا أمام خياري السيء والأسوأ، وأي حلّ نقدي واقتصادي لن يكون بمعزل عن انفراج سياسي، لا تبدو مؤشّراته جليّة.

لبنان 24