لا يوجد بلد جداً مُدَولر في الكرة الأرضية يعتمد نظام تحرير سعر الصرف، لأنه وفق جميع منشورات الأدبيات الاقتصادية العلمية ووفق مختلف التجارب العالمية لا يتلاءم مع خصوصيات البلاد المدولرة جداً جداً (يعني مستوى الدولرة فيها يفوق الـ 70 ٪). إنّ أنظمة سعر الصرف المعترف بها وفق صندوق النقد الدولي معروفة ولكن لا يوجد سياسة نقدية واحدة ولا نظام سعر صرف واحد هو الأفضل والأكثر فعالية لكل البلدان وكل الأوقات بغضّ النظر عن خصوصياتها والمؤشرات التي تطغى على مسارها في مختلف المراحل… وإنّ أهم عامل يتم على أساسه تقسيم البلدان قبل تحديد سياسة المصرف المركزي المناسبة لها ونظام الصرف الأكثر فعالية والأقل كلفة على مجتمعها والأكثر تَناسُباً لخصوصية اقتصادها هو معرفة درجة معدّل الدولرة فيها واستدامته… واستناداً للأدبيات الاقتصادية المتخصصة بالسياسة النقدية للبلدان المدولرة، يمكن التأكيد أن أخطر نظام سعر صرف لاقتصاد جداً مدولر مثل لبنان هو تحرير سعر الصرف، خاصة بعد طغيان الدولرة منذ الأزمة النقدية في الثمانيات وتأكيد كل تقارير المنظمات الدولية من صندوق النقد عام 1994 الى البنك الدولي في تقريره في تشرين الثاني عام 2022، الذي نَصّ حرفيّاً على أن «الدولرة غير قابلة للتراجع حتى بعد تعافي الاقتصاد».
في الواقع، حتى ما قبل حرب 1975-1990 في لبنان، في نهاية عام 1974، كانت الودائع بالعملات الأجنبية (823 مليون دولار أميركي) لم تتجاوز 18 ٪ من إجمالي الكتلة النقدية للبلاد، وكانت أقل بكثير من الأصول بالعملات الأجنبية للنظام المصرفي (2.11 مليار دولار). هذا يعني أنّ معظم العملات الأجنبية التي كانت تدخل إلى لبنان كانت تتحوّل إلى ليرة لبنانية، ما ساهمَ في ارتفاع قيمة العملة الوطنية. منذ اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، بدأت التحويلات من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية تتضاءل تدريجاً لينعكس الوضع مع بداية عملية الدولرة الجزئية غير الرسمية الناتجة عن الاختيار الحر للقطاع الخاص بعد التدهور للقوة الشرائية للعملة الوطنية وافتقاد الثقة بإمكانية ثباتها خلال الأزمة النقدية في الثمانينات.
قبل عام 1993، تخلّى لبنان عن نظام سعر الصرف العائم Free Floating. لذلك، وبعد اعتماد نظام ربط زاحِف حتى الانتقال عام 1998 الى Crawling peg، واعتمدَ على تخفيض سعر الصرف تدريجاً حتى تطبيق الربط التقليدي لنظام عملة واحد مُلزم Conventional soft peg to one currency LBP إلى USD بسعر 1501-1514 بمتوسط 1507.5 منذ 1997.
تؤكد الأدبيات الاقتصادية في جميع المنشورات الدولية في السياسة النقدية للبلدان المدولرة من ميشكن وسافاستانو (2001) مروراً بكالفو وفاك (2002)، كالفو وميشكن (2003)، غارسيا وسوتو (2004)، أوسيتفيلد (2006 و 2008، 2009)، اينشغرين (2007 و 2008 و 2009)، كالفو (2008)، اللييغريت (2011، 2015) وهوسمن (1999، 2000) وبونسو في مختلف منشوراته عن البلدان المدولرة جدا (2005… 2019) وجميع تقارير صندوق النقد الدولي والنظريات حول سياسات المصرف المركزي أنّ السياسة النقدية التي لا يمكن أن تكون فعّالة في ضبط الكتلة النقدية حيث معظم السيولة المتداولة هي بالدولار الأميركي وليس بالعملة الوطنية ما يُحتّم الانتقال الى ضبط سعر الصرف… وهذا بالأساس سبب الانتقال من نظام سعر الصرف العائم الى الربط المَرن في لبنان عام 1993 نظراً للمستوى المرتفع الذي بلغته الدولرة وتأكيد تقرير الاقتصادي مولير (1994) أن الدولرة في لبنان تعكس حالَ هيستيريا يَستحيل تخفيضها حتى بعد تعافي الاقتصاد… وهذه هي العبارة نفسها التي وردت في تقرير البنك الدولي في تشرين الثاني 2022 عن لبنان بالتأكيد على الطابع الثابت للدولرة وغير القابل للتراجع حتى بعد تعافي الاقتصادي اللبناني بعد الانهيار الذي أسقطَ منذ العام 2019 القدرة على الحفاظ على الربط المَرِن لسعر الصرف.
أما لماذا لا يتم العمل لتخفيض معدّل الجولرة بدلاً من اعتماده كمُعطى ثابت غير قابل للانخفاض، فالجواب وبكل بساطة أنّ الادبيات الاقتصادية أيضاً تؤكد أن ثمة عوامل تمنع تراجع الدولرة حتى بعد تعافي اقتصادات معينة منها ما يُعرف بحالة «الادمان على الدولرة وهيستيريا الدولرة»، وغياب عناصر الطمأنة في البلاد علماً أن معظم البلدان التي تشهد حالات مماثلة تكون قد عرفت حرباً أو أزمة هوية ونزاعات سياسية حادة وصراعات تفقد الثقة بالمناخ الاستثماري فيه، وتجعل العملة الوطنية هشّة، وهي معظمها أيضا بلدان صغيرة الحجم منفتحة الاسواق ويطغى فيه قطاع الخدمات ويَتَّكِل فيها ميزان المدفوعات على اجتذاب الرساميل أكثر منه على حجم التصدير…
إنّ تخفيض الدولرة كان يفترض أن يحصل في فترة الاستقرار النقدي ووجود احتياطات فعلية من الدولار في البنك المركزي أو بعد صدمات إيجابية، ولكن حتى وَقتذاك لم تَزدْ ثقة الناس بالليرة اللبنانية وبقيت معدلات الدولرة تفوق 70 %… فكيف اليوم بعد سقوط استقرار سعر الصرف واستنزاف احتياطات البنك المركزي حيث لا يبقى سوى جزء من الاحتياطات الالزامية وفق ميزانية المصرف المركزي؟
في تشرين الأول 2019 سقط نظام سعر الصرف القائم على الربط المَرن لليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، أي عملياً يعيش لبنان منذ ثلاث سنوات بدون أي نظام سعر صرف لتفادي الجميع الانغماس بمسؤولية اختيار النظام البديل في ظل هيستيريا الدولرة الجزئية الشرسة وغير الرسمية التي تفرض نفسها على وقع فوضى الأسواق، وتسحق كل من لا يصل الى يده سوى مدخول بالليرة اللبنانية، وذلك بدلاً من مواجهة الواقع من قبل السلطات الرسمية المعنية لحماية المساواة الاجتماعية بين المواطنين وحقّهم ببَدل أتعاب ومداخيل بنفس العملة التي يتكبّدون فيها تدريجاً كل المصاريف، لا سيما منهم العاملين في القطاع العام الذين أصبحوا عملياً على هامش النظام الاقتصادي – الاجتماعي ككل.
ووفق التقرير السنوي عن ترتيبات نظام الصرف وقيود الصرف (2018) تُمثِّل البلدان التي تعتمد تقييد أو ربط سعر الصرف حوالى 42 ٪ من مختلف البلدان، تليها البلدان التي تعتمد أطر السياسة النقدية الأخرى (24 ٪)، والبلدان التي تحدد مستوى التضخم (21 ٪)، وتلك التي تعتمد غيرها من الأهداف النقدية (13 ٪). وتحاول بعض الدول التي تستهدف سعر الصرف التحرك نحو مزيد من المرونة فيه، كما فعلت دول أخرى في السابق، في حين فَضّلت بعض البلدان الاستقرار في إطار تثبيت سعر الصرف بشكل مستدام…
في ظل حرية حركة الرساميل وسعر الصرف الثابت مقابل عملة واحدة، على سبيل المثال، يمكن للبنك المركزي أن يعتمد سياسة التدخّل فقط وفق مبدأ منع حصول انحرافات كبيرة في سعر الصرف أو شرط التكافؤ في أسعار الفائدة بين العملة المحلية والدولار الأميركي… في ظل نظام ربط موثوق به، من غير المتوقع أن تتغير الفائدة على العملة المحلية بالنسبة إلى العملة التي ترتبط بها سوى بفارق علاوة المخاطرة. وإذا كان هناك انحراف مقصود عن شرط تعادل سعر الفائدة، يمكن للرساميل، نظريًا، أن تتدفق إلى الدولة وهي ذات معدل الفائدة الأعلى والأقل خطرًا.
ومع ذلك، فإن السياسة النقدية في ظل ربط سعر الصرف أكثر تعقيدًا من رد الفعل البسيط وفقًا لقاعدة معينة من قواعد السياسة النقدية، إذ لا تحتاج السياسة فقط إلى إدارة فرق سعر الفائدة وسد فجوة التضخم مع البلدان التي تشهد استقرارا راسخا.
كما ينبغي على البلد، الذي يتمسّك بربط عملته المحلية بعملة أجنبية دولية مستقرة، أن يأخذ على عاتقه مستوى الاحتياطيات لديه بالعملات الأجنبية التي تعتبر كافية لدعم مصداقية الربط، وذلك يتطلّب الحرص على تأمين فائض سنوي بميزان المدفوعات ما يعني دخول عملات أجنبية أكثر من خروجها سنوياً من البلد المعني. أكثر من ذلك، تحتاج السياسة النقدية إلى معالجة الاختلالات المُحتملة في أسعار الصرف التي يمكن أن تنشأ عن التغيرات المتوقعة في العملات الأساسية، أو الاختلالات في أسواق المال والعملات الأجنبية.
وغالبًا ما يكون الحجم الإجمالي لتدفقات العملات الأجنبية – المرتبطة بالمعاملات الجارية وحسابات رأس المال – بدلاً من درجة حرية حركة الرساميل، هو المحرك للمراجحة بين أسواق المال وأسواق العملات الأجنبية، ما يؤدي بدوره إلى تشكيل طبيعة انتقال النقد. الصدمات الخارجية يمكن أن تكون صدمات االميزان الجاري أو ميزان الرساميل، ويمكن أن يكون للبلد حرية حركة الرساميل من دون أن يعني ذلك حتماً إمكانية تدفقها إليه. من ناحية أخرى، حتى عندما تكون حركة الرساميل مقيّدة نسبيًا، فإنّ قدرة البنك المركزي على التحكّم بالفائدة يمكن أن تكون صعبة، خاصةً عندما تكون احتياطيات العملات الأجنبية منخفضة، ويكون الاقتصاد معرّضًا لصدمات كبيرة في شروط التجارة والعملات، فيكون الخيار الأمثل باعتماد سعر صرف يتماهى مع طبيعة الصدمات – سواء كانت فعلية أو اسمية – ودرجة حرية حركة الرساميل.
ويلاحظ عادة خوف العديد من البلدان النامية من تعويم سعر الصرف وتسعى الى ربط سعر صرفها أو إدارته بإحكام لعدد من الأسباب، لا سيما منها زيادة احتياطياتها بالعملات الأجنبية، والحفاظ على التنافسية، والحد من الضغوط التضخمية في غياب ربطٍ اسمِيّ بَديل. وتربط بعض البلدان سعر الصرف الخاص بها بسعر الصرف للاقتصاد الأكبر والأكثر ثباتا وخاصة عندما يكون البلد المعني مُدَولراً…
وعادة ما يلعب سعر الصرف دورًا مُهَيمنًا في اقتصادات الأسواق النامية والناشئة مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، حيث تتم المعاملات الأجنبية بالعملة المحلية، وتكون الأسواق أعمق، والقطاع الخاص أكثر استعدادًا للتعامل مع مخاطر العملات الأجنبية.
يمكن إدارة سعر الصرف من خلال التدخلات التقديرية أو القائمة على القواعد، أو من خلال استخدام معدّل الفائدة الذي يقلّل من الحاجة إلى تدخلات كبيرة في العملات الأجنبية، وبالتالي الحفاظ على احتياطيات العملات الأجنبية. وتسمح السياسات النقدية وسياسات أسعار الصرف التقديرية بالكامل بتحقيق أكبر قدر من المرونة في الاستجابة للصدمات غير المتوقعة، ولكنها قد تؤدي إلى إشارات مُتضاربة حول أهداف البنك المركزي، ما يُقَوّض مصداقية السياسة النقدية.
طبعاً، من مدخولهم بالدولار الأميركي لن يتأثروا في حال اعتماد تحرير سعر الصرف وربما هم ينادون به! ماذا عن بقية اللبنانيين؟ كيف سيعيش من مدخول بالليرة اللبنانية وسط تأرجحها بنظام سعر صرف متحرر في بلد مدولر بأكثر من 80 %؟ كيف تحفظ القدرة الشرائية لرواتبهم وقيمة تعويضاتهم لنهاية الخدمة؟ كيف يمكن التبرير لهم أن تكون الدولرة شبه شاملة ولكن غير رسمية لكي لا تشملهم وهم عاملون في القطاع العام؟! هل نريد أن يمشي لبنان على خطى زمبابوي فتتفكّك فيه المؤسسات العامة وتفرط الدولة؟! أم الأفضل الاعتراف بنجاح نموذج الاكوادور حيث تم الاعتراف بالدولرة رسميا بعد أن أصبحت شبه شاملة، وتم فرض الضرائب بالدولار على الأرباح والمداخيل بالدولار حتى يصبح للدولة ايرادات بالدولار وموازنة تصمد لسنة ونفقات لموظفيها بالدولار حتى يقدموا الى العمل يومياً وليس مرة في الأسبوع ؟! بقيت في الأكوادور العملة الوطنية تطبع بكميات قليلة للابقاء على رمزيتها، ولتسديد مبالغ صغيرة لصعوبة استيراد العملات المعنية للسندات بالدولار… المسألة مسالة عدالة إجتماعية وحفاظ على ما تبقّى من دولة… ما من قطاع خاص يعيش في بلد بدون دولة!!!
الجمهورية