كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
مارون وأحمد وآدلين وأكرم وبتول وأبو جان وإم علي… كلهم يعانون من مرض واحد… النسيان. أكثر من مرض هو جائحة تجتاح الأراضي اللبنانية وتقارع كورونا السيئة الذكر وتصيب الممانعة والمعارضة ومن هم في الوسط بالأعراض ذاتها، ولا تترك كبيراً أو صغيراً من شرها. لكن يبدو أنها تستحلي اللبنانيين دون سواهم بعد أن ثبت تحوّلها إلى حالة مستفحلة ومعمّمة. بعضهم يتهم اللقاحات وبعضهم الأزمة وآخرون يعتبرونها سمة من سمات الجينات اللبنانية المفطورة على النسيان…
ظاهرة يشكو منها الجميع من دون استثناء، ثم ينسون أنهم يشكون… يتذمرون من الطبقة السياسية الحاكمة ثم ينسون عند الانتخابات ما يتذمرون منه بشأنها ويعيدون انتخابها ذاتها. ينسون أسباب الحروب والأزمات ومن جرّهم إليها، حتى الأزمة الاقتصادية ينسونها في الصيف ليعيشوا الـ«أهلا بهالطلة» ويعيدون تذكرها مع بداية موسم العودة الى المدارس. مفطور الشعب اللبناني على «نعمة النسيان» ليستطيع الاستمرار. لكن النعمة بدأت تصيبه في يومياته وتخرّب تفاصيل حياته حتى صار اشبه بآلة إلكترونية محروق فيها أكثر من «فيوز» تشتغل لحظة وتتعطل لحظات.
حالة خرف جماعي يتوقف عندها المحللون النفسيون وأطباء الأعصاب ويحاولون تحليلها وإيجاد أسباب أو تبريرات لها. د.سامي الراعي الاختصاصي في طب الدماغ والأعصاب يفسر النسيان على أنه قلة تركيز ناجمة عن « التعصيب». ورغم أنه لا يمكن التعميم إلا أن أكثر من 90 في المئة ممن يشكون من النسيان يعانون من قلة التركيز هذه، فيما النسيان الذي يعود الى أسباب مرضية عضوية مثل الألزهايمر والخرف لا يتعدى 10 في المئة. وقد ثبت علمياً أن التوتر والضغوطات والتعصيب تؤدي الى عدم القدرة على التركيز ما يجعل الإنسان ينسى ما هو في صدد القيام به من أعمال أو لا يكون قادراً على إتمامها. الرياضة والحركة البدنية لساعة يومياً قادرة على تحسين التركيز بنسبة كبيرة والتخفيف من النسيان. هي الحل إذا إضافة الى الابتعاد عن المشاكل والبحث عما يفرح الإنسان ويريحه.
الابتعاد عن المشاكل يعني الابتعاد عن لبنان… نسأل الطبيب إذا كان هذا هو الحل لكنه يدرك كما ندرك نحن أن العالم بأجمعه يعاني فإلى أين المفر؟ الى أوكرانيا أو روسيا او ربما الولايات المتحدة التي يبدو أنها تسير على خطانا بالدين العام أو كندا المثلجة التي تجمد الأعصاب والذاكرة؟ لكن الطبيب المختص يؤكد أن حالة فقدان التركز العابرة يمكن أن تتطور على المدى البعيد لتصبح إعاقة فعلية للحياة اليومية إن لم يبادر الشخص الى إزالة أسباب التوتر والتعصيب… ولكن كم يمكن للبناني أن يتجنب التعصيب وكل ما حوله يدعوه اليه بدءاً من حالة السير والطرقات وصولاً الى أقساط المدارس مروراً بتسعيرات السوبرماركت والمستشفيات؟ يكفي أن يتحسس الراتب في الجيب لرفع درجات التوتر الى الأحمر عنده.
المحللة النفسية ريما بجاني تتوغل أكثر في شرح أسباب النسيان عند اللبنانيين. وترسم رأس الإنسان كأنه دائرة ملأى بالأفكار والانشغالات غير المنظمة وهذا ما يولّد لديه ضغطاً مستمراً. في لبنان لا شك أن النسيان على تزايد وذلك لسببين الأول أن لدى اللبناني تراكماً من المشاكل لا في السنتين الأخيرتين فحسب بل على مدى عقود خمسة الى الوراء، هو إنسان ما انفك يعبر من حرب الى حرب فأزمات متتالية: انتفاضة 17 تشرين، انفجار المرفأ، جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية التي لا تزال مستمرة» وعلى رأي فيروز «خمسين سنة كنت بهالدني وماكنت بالهدني» يعيش ولا يعيش لكنه مجبر على الاستمرار. أما السبب الثاني والأصعب فهو أن لا أحد يساعد اللبناني على العمل على نفسه وتنمية قدراته الذهنية لتخطي هذه المشاكل، فهو لا يعطيها الأهمية التي تستحقها ولا يدرك أنها السبب وراء ما يعانيه من حالة النسيان وفقدان التركيز. لذلك تراه يذهب الى بدائل تساعده على التأقلم مع الأزمات والمشاكل التي يعيشها.
حالة عامة
النسيان إذاً ليس حالة عابرة يعاني منها بعض الأشخاص أو الفئات في المجتمع اللبناني بل هو حالة تكاد تكون عامة لأن الكل يشكو منها. فالنسيان هو نتيجة حتمية لتراكم المشاكل التي دأب اللبناني على مواجهتها من جهة أو رغبة لاواعية عنده في عدم تذكر المشاكل ومحاولة القفز فوقها في نوع من الدفاع الذاتي لحماية نفسه من الألم والتوتر. لكن آلية الدفاع هذه عن طريق النسيان ليست للاسف اختيارية، إذ قد ينسى الإنسان أشياء هو بحاجة الى تذكرها كما ينسى الأمور التي يود نسيانها. ومن جهة أخرى يمكن للنسيان أن يكون مفيداً وذا طابع إيجابي، فحين يركز المرء مثلاً على موضوع معين يود إنجازه فإن باقي التفاصيل لا تعود تهمه فلا يتذكرها بشكل آني لكونه سيعود إليها لاحقاً. فثمة أمور لا يحتاج الى تذكرها ومع التقدم في السن تزداد هذه الآلية فعالية فيصبح قادراً على تذكر ما يهمه ونسيان ما يفضل نسيانه لكونه لا يعنيه.
ولكن عند اللبناني مشكلة النسيان تتخطى التركيز فطبيعة ذهنه هي التي تؤدي به الى النسيان لأنه ليس قادراً على العمل على مشاكله لتخطيها وتصفية ذهنه. فصفاء الذهن يعني إخراج «السترس» والمشاكل بغية تخطيها وترك مكان لتنمية القدرات الذهنية من جديد ومن ضمنها الذاكرة التي يمكن العمل على تقويتها لجعل صاحبها قادراً على تذكر ما ينبغي عليه تذكره في حياته اليومية. اللبناني اليوم يعاني من قلة تركيز أكثر من النسيان لأن فكره في مكان آخر مشغول ومشتت بمشاكل كثيرة حتى وإن كان يظن نفسه مركزاً ومنتبهاً الى ما يقوم به. فتراكم المشاكل على مدى السنين موجود قابع في مكان ما في فكره ويؤثر عليه من دون أن يكون واعياً لذلك ومدركاً لتداعياته. صحيح أن النسيان قد يأتي من التقدم بالعمر، من الخرف ومن الألزهايمر بلا شك وقد تكون له أسباب صحية متعددة لكن أن يكون شعب بكامله مصاباً بحالة النسيان فهذا يعني ان طريقة التفكير هي ما يوصله الى هذه الحالة.
تهمة أم نعمة أم دائرة مفرغة؟
ثمة أسئلة تلح في بالنا يستدعيها وضع لبنان، أليس النسيان تهمة تلاحق اللبناني وتجعله يكرر أخطاءه ذاتها وكأنه نسي أسبابها وتداعياتها؟ وهل يجعله النسيان يهرب من مشاكله ليعيد صياغتها ذاتها من جديد؟ ألا يتكل السياسيون بدورهم على ذاكرة الشعب القصيرة ليستمروا في ممارساتهم ذاتها؟
هنا تتوغّل المحللة النفسية عميقاً في تركيبة الشعب اللبناني لتقول إن لهذه التهمة أسبابها، إذ إن خمسين سنة من المشاكل أثبتت واقعاً إجتماعياً اكيداً هو عدم القدرة على التغيير. وحين أتت الثورة حاملة معها رياح التغيير تبين للمواطن من جديد أن التغيير غير ممكن، لا بل أن الشعب اللبناني نمّى أجيالاً متتالية مقتنعة بأنها غير قادرة على التغيير. من هذا المنطلق الذهني ابتكر اللبناني طريقة لتخطي المشاكل أو أقله للتأقلم معها بحيث بات يتأقلم بما يملكه من مقومات مع اي وضع يجابهه بدل أن يسعى لتغييره. صار يقبل بالواقع المتأتي عن ماضيه وهو مقتنع ذهنياً أنه غير قادر على تخطيه فصار يبحث عن قدرات ذهنية للتأقلم من بينها النسيان. فيما الحقيقة أنه لا يمكن للنسيان أن يكون حلاً للمشاكل بل هو طريقة للتأقلم معها تساعد المواطن على الاستمرار بحياته.
من خلال النسيان وتربية الأجيال على عدم القدرة على التغيير يعود اللبنانيون لارتكاب الأخطاء نفسها وكأنهم يسلمون بقدرهم ويستسلمون له. يرون من حولهم أن ما من رجل سياسي قد حوكم او فاسد سجن أو مرتكب أُوقف لذا يستمرون في التأقلم مع هؤلاء وارتكاباتهم وفي قرارة أنفسهم لا ينسون حقاً بل يستسلمون لعدم قدرتهم على التغيير.
حتى الهجرة في لبنان هي نوع من النسيان أو التأقلم. فالشعب الذي يعد أبناءه منذ طفولتهم للهجرة ويحضرهم للمغادرة ما إن تتاح أمامهم الفرصة، لا يقوم بذلك رغبة بمنحهم مستقبلاً أفضل بل عن قناعة بأن أوضاع البلد لن تتغير وبأن الشعب غير قادر على تغييرها. ومن هذا المنطلق تقول بجاني ترانا كشعب لبناني نرمي وراء ظهرنا ما يزعجنا ونتأقلم معه ونربي اولادنا على النمط نفسه ونكمل المسار، وهذا ما يمكن تفسيره بانه نسيان جماعي. لقد حان الوقت اليوم للعمل على الذهنية المتوارثة واللاوعي الجماعي الذي نتناقله جيلاً بعد جيل ويدخل ضمن إطار التأقلم والنسيان بسبب عدم القدرة على التغيير.
ماري والطعم
بعيداً عن التحاليل النفسية والاجتماعية ثمة من يعيد سبب استفحال حالة النسيان أخيراً الى لقاحات كورونا. فاللقاحات باتت سبباً لكل ما يصيبنا من أعراض صحية وشماعة تحمل كل مآسينا. لا شك أن للقاحات انعكاسات صحية بدأت تظهر تباعاً وبدأ الحديث عنها يتصاعد وإن لم تكن مثبتة بالأرقام بعد. في هذا السياق طرحنا السؤال على د. سامي الراعي الاختصاصي في طب الأعصاب والدماغ الذي أجاب أنه طالما أن الطب لا يملك إثباتات دامغة أن اللقاح مؤذٍ ويؤثر على الذاكرة لا يمكننا تبني ما يشاع. ولكن هل يمكننا نفيه كلياً؟
كلام الطبيب لم يقنع «ماري» التي تصر على أنها مذ أخذت الطعم «راحت وحدة وإجت وحدة ثانية محلها» وأنها صارت تنسى كثيراً حتى أنها أرادت ان تزور «صونيا» فدقت باب «لميس» بالغلط… نسيت ماري أنها صارت فوق السبعين وأنها تعيش في لبنان… سواء اقتنعت أو لم تقتنع. أحد الزملاء نسي أين وضع زوجيّ كلسات «خلانج» وبعد أيام وجدهما في البرّاد!