بات الحديثُ عن مصير “صيرفة” وإستمراريتها هو الأكثر بروزاً على السّاحة المالية والإقتصادية داخل السوق اللبناني لاسيما مع اقتراب انتهاء ولاية حاكمِ مصرف لبنان رياض سلامة نهاية شهر تمُّوز الجاري.
حتى الآن، فإنّ ما يتبيّن هو أنّ مستقبل المنصّة بات مرهوناً بـ”الإلغاء التدريجي”، وهو الأمرُ الذي ثبّتهُ نائب الحاكم الثالث سليم شاهين الذي أعلنَ في حديثٍ عبر وكالة “رويترز”، أمس الإثنين، أنَّ المنصة ستتوقف تباعاً بعد خروج سلامة من البنك المركزي، مشيراً إلى أنّ مصرف لبنان يُجري محادثات مع الجهات المعنية في الدولة اللبنانية وكذلك مع صندوق النقد الدولي من أجل الإبتعاد عن المنصة نظراً لإفتقارها الى الشفافية والحوكمة.
ما قاله شاهين بشأن “صيرفة” مؤخراً يأتي مُكمّلاً لتصريح آخر له خلال اليومين الماضيين، إذ كشف عن اجتماعات حثيثة لبحث إمكانية إطلاق منصة تداول عملات جديدة بالتعاون مع وكالة “بلومبيرغ” أو “رويترز”. وعملياً، فإن كل ذلك يعني أنَّ “صيرفة” ستذوبُ بشكل متتابع ريثما تبرزُ منصة جديدة تحكُمها ضوابط أكثرَ، في حين أن المسعى من “الآلية الجديدة” هو تنظيم التداول وتوسيعه وتسجيله بشكلٍ أكثر شفافية وفعالية. أما الأمر الأهم فهو تنظيم وصول البنوك والمؤسسات المالية المؤهلة إلى المنصة الجديدة كُـ”صنّاع سوق”.
ماذا يعني كل ذلك؟
في بادئ الأمر، يتبيّن بشكلٍ قاطع أن المعنيين في المصرف المركزي لم يكونوا راضين عن أداء منصة “صيرفة” وبالتالي غير مستعدين لتغطيتها بتاتاً، وكلام شاهين عن إفتقارها “الشفافية والحوكمة” هو أكبر دليلٍ على ذلك. إلا أنه في المقابل، ومن خلال الكلام الذي قاله نائب الحاكم الثالث، يمكن إستنتاجُ إدانةٍ واضحة لنواب الحاكم الأربعة على تغطيتهم “صيرفة” منذ العام 2021 وحتى اليوم. هنا، تسألُ مصادر ناشطة في القطاع المالي: “ألم يكُن نواب الحاكم يعلمون بماهيّة صيرفة وكيفية عملها؟ لماذا لم يتحدّثوا عن فقدان الشفافية والحوكمة طيلة الفترة الماضية التي شهدت تطوّر المنصة بشكلٍ لافت؟ لماذا سمحوا بإستنزاف مئات ملايين الدولارات عبرها من دون أي موقف؟ السؤالُ هنا مشروعٌ تماماً ويحتاجُ إلى إجابات واضحة”.
ما يصبو إليه نواب الحاكم الأربعة هو تعاونٌ على إدارة الأزمة والتأسيس لمرحلة جديدة تُعفي مصرف لبنان من مسؤولية التدخل بالسوق بشكلٍ إنفرادي ومن دون أي تغطية قانونية أو دستورية لضخّ الدولارات أو منح سيولة بالعملة الصعبة في أماكن محدّدة وعديدة. حتماً، قد تكون هذه المطالبة مُحقة، خصوصاً أنها تساهم في تقليص سياسة الدعم بالدولار التي تورّط بها مصرف لبنان عبر “صيرفة”. عملياً، فإن المبدأ هذا يجوزُ تماماً طالما أنهُ يرتبطُ بمسار إصلاحي يوقف هدر الدولارت في السوق، لكن في المقابل، تكمن جدلية جديدة وهي: من أين ستُموّل المنصة الجديدة نفسها؟ هل ستعتمدُ على نفس الآلية التي كانت تعتمدها “صيرفة” لشراء الدولار؟ هل ستكون هذه المنصة عنواناً لجذب إستثمارات وأموال لتشغيلها في السوق بغض النظر عن المصارف ودورها المالي؟ هل ستكونُ هذه المنصة “مانحة” للدولارات أم فقط “بورصة تداول” سترسُو عند سعر يتحدّد بشكلٍ يومي؟
المُفارقة حتى الآن هي أنّ مصير السوق ما زال ضائعاً وتائهاً بين منصة قديمة معروفة الأدوات نسبياً وبين أخرى جديدة تحتاجُ إلى توضيحات تفصيليّة. إلا أن النقطة المهمّة والتي تُعتبر ذات انعطافة مفصليّة تكمنُ في إنخراط لاعبين دوليين على صعيد التداول ضمن المنصة العتيدة. هنا، قد يكون هذا الأمرُ إيجابياً تماماً لاسيما أنّ العمليات المالية ستكونُ خاضعة للرقابة أكثر من قبل أطرافٍ دولية، ما يُشير إلى أنّ قدرة التلاعب بالتداول من قبل كبار التجار والمصارف ستتضاءل تدريجياً. وللإشارة، فإنّ عمل “صيرفة” كان يتضمن الكثير من الشوائب أبرزها أنّ الكثير من الأشخاص كانوا يحصلون على دولارات من أكثر من حسابٍ تابع لهم، في حين أن عمليات الإلتفاف التي كان المواطنون يقومون بها ساهمت إلى حدّ كبير في إستنزاف الدولارات، والسبب هنا يعود إلى غياب آلية تضبطُ وتنظم عملية الحصول على المال. فعلى سبيل المثال، كان المواطنون يودعون مبالغ طائلة بالليرة من دون معرفة مصدرها، ويحصلون على الدولار بدلاً منها وسط عدم وجود دراية ومعرفة بسبل إستخدام تلك الأموال لاحقاً. كذلك، كانت عملية إستخدام شخص واحد لحسابات مالية عديدة عائدة له للإستفادة من “صيرفة”، إحدى الثغرات التي أدّت إلى إستنزاف مبالغ طائلة كانت تُضخُّ عبرها.
ما يتبيّن في الوقت الراهن، ومن خلال الكلام الذي يقال عن المنصة الجديدة، إنَّ كل التجاوزات التي أسستها “صيرفة” ستختفي تباعاً، وبالتالي ستنشطُ سوق ماليّة واضحة المعالم، أقله بمشاركةٍ دوليّة. كذلك، فإنه من الممكن تماماً أن تساهم المنصة الجديدة في تحديد سعرٍ حقيقي للدولار في السوق من خلال قياس التداول الحقيقي والمسجل والخاضع للرقابة. وعليه، قد يساهم ذلك في سحب تأثير السوق الموازية على المشهد تدريجياً، فطالما كانت هناك محفزات للتجار والمستوردين الكبار للإنخراط في “البورصة الجديدة”، طالما كانت هناك بوادر للإنسلاخ عن السوق الحرّة التي يحكمُها المضاربون. أما “الضربة الأكبر” فستكون في إمكانية إبراز المنصة الجديدة لسعرٍ جديد للدولار يكون أقل من ذلك الذي تعلنه “صيرفة”. حتماً، الأمر هذا وارد فيما يتوقع أيضاً أن يكون السعرُ الحقيقي للدولار أعلى من القائم حالياً، إلا أن كل ذلك يعتمدُ على شفافية المنصة وحجم العرض والطلب على الدولار.
أمام كلّ ذلك، فإنّ مصير بعض الأمور التي رُبطت بـ”صيرفة” ستبقى معلقة إلى حين معرفة إتجاه الأمور. فعلى سبيل المثال، هناك الإتصالات، الرسوم الجمركية، نفقات الدولة في موازنة العام 2023، رواتب القطاع العام، تعرفة الكهرباء وغيرها من الأمور، كلها تترقب مصيرها.. والسؤال: هل سترتبطُ جميعها بالمنصة الجديدة؟ أم أنه سيتم إبتداع منصة أخرى تكون نسخة مصغرة عنها لإدارة تلك الأمور المذكورة؟
في خلاصة القول، ما من شيءٍ واضحٍ حتى الآن، وما يمكن قوله هو أن السوق “تائه” وضائع ويترقّب وهناك خطوات لافتة تنتظر الدولار، إما سلباً أم إيجاباً.. ولكن، من سيفوز في النهاية.. “السوق الموازية” على مصرف لبنان بتوجهاته الجديدة أم العكس؟ الأيامُ المقبلة كفيلةٌ بتقديم الإجابة…
لبنان 24