“المركزي” يتخلّى عن أسوار “القلعة الحصينة”!
جاء في “الراي” الكويتية:
يستعيد مصرف لبنان المركزي بالتدرّج، إنما بثباتٍ صريح، مركزيّتَه في صنع القرار النقدي وإدارة القطاع المالي، عبر تذويبٍ منهجي لكتل الضغوط السياسية والشعبية التي تفاقمت بصورة دراماتيكية وتَراكُمية خلال أعوام الانهيار الأربعة المنصرمة، نتيجة تحميل الوزن الأكبر للأوزار الناشئة نقدياً ومالياً على عاتق الحاكم رياض سلامة الذي سلّم أول الشهر الحالي راية القرار المركزي الى نائبه الأول وسيم منصوري.
وتترجم الوقائع الشكلية جانباً معبّراً من هذه الحيوية المستعادة، عبر فتح أبواب «القلعة الحصينة» أمام الزائرين من إعلاميين ومصرفيين ومراسلي البنوك، ما يمهّد للتخفيف تباعاً من الأسوار الأسمنتية والحديدية، وبالمثل الأمنية، التي تزنّر مقر البنك المركزي المقابل لمبنى وزارة الداخلية في أول شارع الحمراء الشهير في لبنان. بينما انحسرت تلقائياً موجات التظاهرات والاحتجاجات الشعبية أمام المبنى.
وفي المضمون الموازي، يواظب الحاكم الجديد بالإنابة ونوابه الثلاثة بشير يقظان وسليم شاهين وألكسندر مراديان، على تثبيت القواعد الجديدة لإدارة المخزون النقدي المتبقّي من العملات الصعبة، وفق معادلةِ إسناد الصرف المحدود وللضرورات فقط بتغطيةٍ قانونية مسبقَة ومرفَقة بتعهداتِ سدادٍ مُبَرْمَجَة الأقساط ضمن مهل زمنية محدّدة. في حين يتوجب إخراج المسؤولية المالية تماماً عن عاتق البنك المركزي، وحصْرها بالسلطة التنفيذية المعنية لجهة محاكاة وتلبية الاحتياجات المالية للدولة بالليرة وبالدولار، وبما يشمل مخصصات القطاع العام.
وتلقى هذه التوجهات «المُغايِرة» في إدارة السياسات النقدية، استجابةً حذرة في أوساط المصرفيين الذين استعادوا للتو مسار التواصل والتنسيق مع هيئة الحاكمية، ويترقبون معها العودة الى المنوال التقليدي السابق للأزمة العاتية، والذي كان يتيح عقد لقاءات تشاورية دورية في نهاية كل شهر (يوم الجمعة غالباً)، تجمع كامل أعضاء المجلس المركزي مع مجلس إدارة جمعية المصارف، بل هم يطمحون الى استعادة «ميزة» المشاركة في التقييم والملاحظات قبيل صدور أي تعميم عن البنك المركزي يخص المصارف ومودعيها.
وبرز في هذا السياق، الافصاحُ عن لقاء جَمَعَ قبل 4 أيام، الحاكم «الخلَف» مع مجلس إدارة جمعية المصارف، وتَبَلُّغَه منهم ارتياحهم الكامل تجاه العزم الذي أبداه حيال التزام «المركزي» بالتقيّد الكامل بالقوانين المرعية الإجراء، لا سيما لجهة موضوع إقراض الدولة اللبنانية أو لجهة عدم المساس بالتوظيفات الإلزامية للمصارف لديه والتي تعود بالنتيجة للمودعين، مثلها مثل سائر ودائع البنوك في مصرف لبنان.
كما رحّب المجلس بحرص الحاكم على الدفع قدماً باتجاه إقرار القوانين اللازمة لحلّ الأزمة المصرفية النظامية وفي طليعتها قانونيْ وضع ضوابط استثنائية على الرساميل والتحويلات (كابيتال كونترول) وإعادة هيكلة المصارف. كما أثنت الجمعية على «تطلعات الحاكم وأهدافه»، مؤكدة أنها “تشدّ على يده وتضع نفسها بتصرّفه بهدف التوصل إلى تحقيق الحلول العادلة والناجعة التي تُخْرِج وطنَنا الحبيب بأسرع وقت من الأزمة الخانقة التي يمرّ بها.
ويؤكد مسؤول مصرفي كبير ومعنيّ تواصلتْ معه «الراي» ان «اصطناع» المواجهات المتنقّلة بين ثلاثي المودعين والسلطة النقدية والمصارف أفْضى الى انحرافاتٍ خطيرة في توزيع أعباء الأزمتين النقدية والمالية وتداعياتهما، والتي نتجت أساساً من تحييد الدولة لنفسها عن مسؤولية موثّقة على صعيد التمادي في إنفاق المدخرات والاحتياطات، وتالياً تعمّدها إشهار العجز عن سداد أقساط وأصول السندات الحكومية بالليرة وبالدولار، ثم التخلي عن دورها المفصلي في تيسير صوغ المعالجات الموضوعية والمثابرة على الاستجابة للتعهدات التي تُفْضي الى تقدم ملف لبنان «العالق» بصفة «اتفاق أولي» وغير «منتج» لدى صندوق النقد الدولي.
ويَظهر، وفق السياق المستجدّ بين الحاكمية والجهاز المصرفي أن التغيير المنهجي الذي تسلكه القيادة النقدية الوافدة لن يقتصر على إعادة هيكلة العلاقات الملتبسة مع وزارة المال في شأن تأمين تدفقات مخصصات القطاع العام والمصاريف الملحة للدولة، بل سيترافق مع تدقيق فوري لكامل بنود ومندرجات ميزانية البنك المركزي التي تحمل أيضاً سندات «يوروبوندز» حكومية تناهز قيمتها الإسمية 5 مليارات دولار. وبالتوازي إعادة هيكلة شبكة العلاقات مع البنوك المراسلة، فضلاً عن مراجعات وتعديلات يمكن ان تشمل مجمل التدابير الطارئة خلال الأعوام السابقة.
وبالفعل، لم يفت منصوري نفسه أن يجاهر بأنه أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما الاستمرار بالنهج السابق والسياسات السابقة في ظل موجوداتٍ محدودة لدى البنك المركزي، وإما لا بد من الانتقال إلى وقف تمويل الدولة بالكامل مؤكداً بالتالي «خيارنا كان ثابتاً وواضحاً وهو أنه مهما كانت الأسباب التي تدفع الحكومة لطلب أموال من المصرف المركزي فهي أسباب غير مبرّرة على الإطلاق ويجب أن يتوقّف هذا الاستنزاف نهائياً. ولذا لن يتمّ التوقيع على أيّ صرف لتمويل الحكومة إطلاقاً خارج الإطار القانوني لذلك».
ويقرّ منصوري أساساً بأنه «لا يمكن للبلد أن يستمر من دون إقرار قوانين الكابيتال كونترول وهيكلة المصارف والتوازن المالي» كذلك «لا يمكن للمصرف المركزي رسم السياسة النقدية والمالية ويجب التعاون مع الحكومة والبرلمان ولا يمكننا تغيير الوضع الحالي بمفردنا».
وفي سياق التحذيرات المشدّدة من سلوك خيار تبديد الرصيد المتناقص من الاحتياطات النقدية «الوطنية»، تبيّن مداخلة ممهورة بتوقيع أمين عام جمعية المصارف الدكتور فادي خلف الخطورة الكامنة أمام إصرار الدولة على متابعة تبديد ما تبقى من الاحتياطي، ليطرح حزمةَ اسئلة مشروعة: «كيف ستتصرف الدولة إذا نضب آخر دولار من أموال المودعين في مصرف لبنان؟ هل ستلجأ إلى مقولة أن الضرورات تبيح المحظورات وتنتقل إلى تسييل الذهب؟ وماذا بعد الذهب؟» ليستخلص «كل ذلك حتى لا تقوم الدولة بالإصلاحات اللازمة وكي تبقى الأولوية للثقوب في السلّة، وما أدراكم كم من المحسوبيات تستقي من هذه الثقوب».
ويؤكد خلف «أن المساس بتوظيفات المصارف لدى مصرف لبنان لم ولن يكون الحل، لا بل سيفاقم الأزمة عوض حلِّها. ولذا على الجميع الاقتناع بأن سعر الصرف لا يمكن إلا أن يعكس واقع الاقتصاد، وكلّ التعويل اليوم على الحاكم الجديد الذي يشدّد على إنجاز القوانين المتعلقة بإعادة الانتظام المالي وإعادة هيكلة المصارف وغيرها من القوانين التي من دونها لا يستوي إصلاح ولا قيامة للبنان».