نعاني هذه الأيّام في لبنان من ارتفاع زائد في حرارة الطقس التي وصلت الأسبوع الماضي إلى حدّ السخونة واللهيب. صحيح أنّنا في شهر #آب، ما يجعل البعض يظنّ أنّ هذا الأمر طبيعيّ؛ لكنّه، في الحقيقة، تخطّى المألوف، لا سيّما أنّ الأمطار والسيول عادت بعدها فاجتاحت خلال ساعات عدداً من القرى في المرتفعات!
أذكر أنّها أمطرت مرّة – قبل ثلاثين سنة تقريباً – في شهر آب، ففوجئ الناس يومها، وتأكّد لهم أنّ توقّعات الشاعر سمير نخلة قد تحقّقت بعدما غنّى #وائل كفوري، من كلماته، “مَعْقول تْشَتّي بـِ”آب”. كنّا نشارك يومها في سهرة عشاء قروي، في الهواء الطلق، والمغنّون يتناوبون على المنصّة، بينما الناس يأكلون ويرقصون ويهزجون غافلين، قبل أن تنزل السماء من عليائها وتشاركنا الأمسية، معربدة مزغردة، وقد انهالت علينا بأمطارها الغزيرة، فتفرّقنا أيدي سبأ.
لا شكّ أنّ أموراً عديدة تغيّرت من ذلك الحين إلى اليوم؛ منها ما هو طبيعيّ، لم يفاجئنا، ومنها ما هو صادم أذهلنا وفرض نفسه على واقعنا… ولعلّ أكثر ما عانينا منه في السنوات الفائتة، وما زال مستوطناً حياتنا، هو التغيّر الجذري في وضعنا الاقتصادي الذي بات خانقاً، والذي زاد، في هذا الشهر تحديداً، من حدّة الحرّ وصعوبته؛ فثوبُ آب في بلاد الأرز يتراقص ملتهباً وسط سماء ملبّدة بأنفاس مولّدات الكهرباء وهي تلهث بصمتٍ خبيث تحت وطأة الحرّ.
ولكن، نتساءل، في هذا الوضع المتأزّم، ومع هذا الاقتصاد المتدهور، والغلاء الفاحش، والدولار المحلّق… كيف استطاع اللبنانيّون تشغيل المولّدات؟!
“اِبتسمْ، أنت في لبنان بلد المعجزات”… نغمةٌ تُطمئنك، مؤكّدة أنّ كلّ شيء يسير بشكلٍ حسن، و”لا داعي للهلع”! فجارك ما زال يشغّل مولّد الكهرباء الخاصّ به، لينعم ببرودة المكيّفات، متحدّياً بذلك الأزمة؛ ولا بأس إن كنت أنت لا تستطيع تشغيل ولو واحد من المكيّفات لديك على كهرباء المولّد المشترَك، وتكتفي بنسيم المروحة السّاخن التي تعبُّه من هواء المولّدات المنتشرة في محيطك، ثمّ تهديه لك، وكأنّها تكافئ صمودك وقدرتك على دفع فاتورة المولّد بالدولار!!!
من قال البلد مفلس؟ أسعار البضائع بالدولار تناديك وهي تتربّع سعيدة على الواجهات والأرفف، وتتوّج صور كلّ ما عُرضَ للبيع على منصّات التواصل، وتتصدّر لوائح المحروقات والمأكولات والمتنزهات… لقمتك بالدولار، ولباسك بالدولار، وتنقّلاتك بالدولار… عالمك الواقعيّ “المُرّ”، والافتراضي “الحُلْو”، كلّها بالدولار، وما زلت، بكلّ فخر، لبنانيّاً، تبيع وتشتري! أما عشنا عمق الإحساس الوطني بالعزّة والكرامة ونحن نردّد مع عاصي الحلّاني كلمات الشاعر نزار فرنسيس “بيكفي إنّك لبناني”؟ هنا المعجزة!
وحين صدحت كلمات سمير نخلة مجدّداً من حنجرة جوزيف عطية: “لبنان رح يرجع والحقّ ما بيموت”، كان الهدف منها منحنا جرعةً أو نفحةً من الأمل باستعادة لبنان الذي ذهب أو ضاع! فلئن أقرّ نخلة بضياعه، وإن بطريقة غير مباشرة، إلّا أنّه منحنا أملًا، قد يكون جزءًا من فلسفة الـ”معقول” التي تُلقي بسحرها على بعض قصائد شعرائنا اللبنانيّين، كما في أغنية “الحق ما بيموت”، برجوع البلد إلى سابق عهده، أو استعادتنا له، ولو بعد حين!
إنّ “آب اللهّاب”، ومنذ السنة 2020 يذيقنا صنوف العذاب وأشكاله… نعم، ضاع لبنان مرارًا وتكرارًا، وكانت قمّة ضياعه حين “شتِّت” (أمطرت) في 4 آب 2020 نيتراتاً ونيراناً أحرقت حياةَ كثيرين، ومستقبلَ كثيرين، وآمالَ كثيرين. “شتِّت” يومها في آب فوق ما نتوقّع ونتخيّل، مُغرقةً بيروت بسيولها المحرقة… فهل تُرى بلد العجائب يفاجئنا بأعجوبة حقيقيّة، ويمطرنا آب هذه المرّة، قبل رحيله، بَرْدًا وسلامًا، أمنًا واستقرارًا، وسيولًا عذبةً تجرف القواذير المنتشرة داخل مؤسّساتنا العامّة، وما اكتسح منها كراسيها، فتطهّرها وتنقّيها بحيث تليق بالشرفاء ممّن بمقدورهم أن يبنوا لنا بلداً حقيقيّاً كامل السيادة، له قراراته الحرّة، وعملته الخاصّة، ووجوده الفعليّ؟!
النهار