هل تُفتَح أبواب المدارس؟

كتب طوني عطيّة في “نداء الوطن”: اذا كان من بطاقة تعريفية يفتخر بها لبنان ويبرزها إلى العالم من دون خجل، فهو التعليم. مدارسه وجامعاته ومعاهده التي كانت درّة الشرقين، باتت في النزاع الأخير، خصوصاً القطاع الرسمي. لا شيء أسوأ من إقفال مدرسة، كأنّه طعنة في عنق الحياة، كونها المصنع الذي يتكوّن فيه المستقبل. أَغلِق كلّ الأبواب، أُضرُب كلّ القطاعات، أهمِل كلّ المؤسّسات، لكن لا شيء يُمكن أن يُعوّض خراب الهيكل التعليمي، ومهما كانت كلفته باهظة على خزائن الدولة، تبقى أرخص بكثير من أثمان تجهيل المجتمع ودفع الأجيال نحو المجهول.

يراقب الطلاب والأهالي والكوادر التعليمية في المدارس الرسمية مصيرهم، هل تُباشر الدراسة في مواعيدها المفترضة مطلع تشرين الأوّل أسوة بالقطاع الخاص الذي ينطلق في منتصف أيلول؟ أمّ أنّ التعثّر سيرافق العام الدراسي وتتكرّر المعاناة للسنة الرابعة على التوالي؟ ماذا عن مثلّث الحلّ أو العقدة: الحكومة، الوزارة (التربية)، المصرف المركزي؟ هل تتّجه الأمور نحو استنباط الحلول أم تراوح مكانها؟

يجتهد الحزب التقدّمي الإشتراكيّ على الخطّ التعليمي، فيُشكّل ملفّ التربية والتعليم أحد أهمّ اهتماماته ومتابعاته الرئيسيّة، وخصوصاً لدى عضو «اللقاء الديموقراطي» النائب أكرم شهيّب، فيقول في حديث لـ»نداء الوطن»: «إنّنا في حراك دائم منذ شهرين وأكثر تجاه كل المرتبطين بالملفّ التربوي من أجل تأمين سلامة العام الدراسي واستقراره». ويشدّد على أنّه «لا يمكننا أن نترك جيلاً بكامله من دون دراسة، أو أن نُقسّم التعليم طبقيّاً. فالقطاع الخاص استكمل كل موجباته وتحضيراته للعام الدراسي الحالي، بينما المدارس الرسمية لا تزال حتّى الآن تدور في حلقة مغلقة».

ويؤكّد شهيّب «أنّ وزارة التربية والتعليم العالي عبر الوزير عبّاس الحلبي تحاول بشكل فاعل مع كل المرجعيات والمعنيين في وزارة المال والبنك المركزي والجهات المانحة لفت النظر إلى عمق الأزمة التي تهدّد المدارس الرسمية». ويلفت إلى «أنّ التسرّب من العام إلى الخاص، لم يقتصر على الطلاّب فقط (أكثر من 25 ألف تلميذ انتقلوا السنة الفائتة من المدارس الرسمية إلى الخاصّة)، بل المدرّسين أيضاً، فالعديد منهم قدّموا استقالاتهم أو أُحيلوا إلى التقاعد أو تمنّعوا عن الذهاب إلى المدارس». ويكشف عن «وجود أكثر من ألفي أستاذ وضعوا طلباتهم في الاستيداع، إمّا بسبب السفر والهجرة وإما للبحث عن عمل آخر». ويستطرد شهيّب معتبراً أنّ «امتحانات 2023 التي بالكاد قد أُجريت، ونسب النجاح المرتفعة ستنعكس سلباً على مستوى الجامعات في لبنان والطلاب الذين سيغادرون إلى الخارج».

إزاء هذه المشهدية القاتمة وعدم قبول أساتذة التعليم الرسمي بما حصل معهم في العام الدراسي المنصرم، ما هي آخر المستجدّات على الساحة التربوية لناحية الحلول المالية والمادية؟ في اللقاء الأخير الذي جمع وفداً من «التقدمي» و»اللقاء الديمقراطي» مع وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف خليل، يوضح شهيّب أنّ «ما توصّلنا إليه هو أنّ الوزارة على استعداد لتقسيط الأموال المرصودة للتعليم الرّسمي». ويشير إلى أنّ الإجتماع بحث كيفية «تقريش» سلفة الـ5000 مليار ليرة التي أقرّها مجلس الوزراء كدفعة أولى من أصل المبلغ المطالب به وهو 150 مليون دولار أميركي، وتحويلها إلى أموال لضمان العام الدراسي 2023 – 2024. حتّى الآن لا تزال السلفة حبراً على ورق. أمّا الإتكال فهو على الجهات الدولية المانحة التي من المفترض أن تساهم في تعليم اللبنانيين وغير اللبنانيين مهما كانت جنسياتهم وأعراقهم، وفق شهيّب. في حين أنه يترتّب على الحكومة اللبنانية حوالى 50 مليون دولار (من أصل 150 مليون دولار). لن تصبح الأمور واقعية طالما أنه لم يتمّ حتى الآن تحويل المبلغ من وزارة المال إلى التربية من خارج الموازنة على غرار فتح اعتمادات المحروقات للجيش اللبناني، لطمأنة الأساتذة والكادر التعليمي عبر صرف رواتبهم عن شهر أيلول، في إشارة إلى مدى جديّة الحكومة في اتمام الإستحقاق التربوي.

في المقابل، كرّر القائم بأعمال حاكم مصرف لبنان وسيم منصوري موقفه لجهة عدم قدرة المركزي على إقراض الدولة من خارج الشروط المطلوبة. بالتالي يبقى على الحكومة أن تستنجد بالجهات المانحة، والافراج عن الأموال المترتبة عليها (50 مليون دولار).

المهنيات: الحلقة الأضعف

تُعدّ المهنيات الحلقة الأضعف في القطاع التربوي وأكثرها تهميشاً. إذ يشير مدير المدرسة الفندقية في الدكوانة وعضو الهيئة الإدارية في رابطة أساتذة التعليم المهني في لبنان جاد ندّاف، إلى أنّ «المدارس والمعاهد الفنيّة لا تتلقى أي مساعدات خارجية من الدول أو الجهات المانحة»، قائلاً إنّه «إلى جانب رواتب ومعاشات الأساتذة، تحتاج المدرسة الفندقية إلى مصاريف إضافية وأساسية، كتأمين السلع والمواد الغذائية من زيوت ولحوم وحبوب وغيرها من المستلزمات وفق سعر صرف الدولار ما يكلّفنا أعباء كبيرة، ليتمكّن الطلّاب من تنفيذ المواد التطبيقية، وهذا ينسحب أيضاً على كل الإختصاصات المهنية».

ينتظر المدير ندّاف كغيره من مدراء المدارس والمعاهد، ما ستؤول إليه المساعي الحكومية والوزارات المعنية كالتربية والمال، لتحويل السّلفة التربوية من أرقام إلى نقود، ليُبنى على الشّيء مقتضاه. «الوقت يداهمنا» يقول ندّاف. باب التسجيل يُفتح في 18 أيلول، على أن يبدأ العام الدراسي في 16 تشرين الأوّل. نريد حقوقنا، صبرنا حوالى 4 سنين ونحن نقاتل بلحمنا الحيّ في سبيل إتمام رسالتنا التربوية، لكن الأزمة فاقت قدرتنا على الإستمرار». ويشدّد على أنّ «شروطنا واضحة، وهي إعطاء الأساتذة رواتب تتراوح بين 600 أو 700 دولار لكي يحافظوا على كرامتهم وحقّهم في العيش والقيام بواجباتهم التعليمية على أكمل وجه».

أمّا عن سلفة الـ5000 مليار، فيرى ندّاف «أنّها لا تكفي، تكاد تغطّي شهرين أو ثلاثة من رواتب الأساتذة»، ويخشى أن «تكون طعماً أو حافزاً موقّتاً لانطلاق العام الدراسي لندخل بعدها في المجهول ونعيد سيناريوات السنوات السابقة». ويلفت إلى أن «المديرة العامة للتعليم المهني د. هنادي برّي، وفي مبادرة مشكورة لدعم صناديق المدارس المهنية، لجأت إلى رفع أقساط التسجيل من مليون ليرة تقريباً إلى حوالى 7 ملايين ليرة لبنانية».

الأساتذة: لن نُخدَع مرّة أخرى

بعد سنوات من التعثّر التربوي الرسمي نتيجة اعتكاف الأساتذة جرّاء تخلّف الحكومات عن التزاماتها، كشف مصدر في رابطة التعليم الثانوي لـ»نداء الوطن» أنّ «المفاوضات مستمرّة مع وزير التربية الذي وعد بتأمين بين 250 و300 دولار كراتب شهري من سلفة الـ5000 مليار ليرة». واستطرد قائلاً إنّ «الحلبي أكّد لنا شفهيّاً أنّه لن يسمح بانطلاق العام الدراسي 2023- 2024 إذا استمرّ المشهد على ضبابيّته، ما يعني أنّ المطلوب هو تأمين مبلغ الـ150 مليون دولار لتغطية السنة الدراسية كاملة». وأكّد «أنّنا لن نسقط مرّة أخرى في الوعود الفارغة، وإلّا ستعود الإضرابات مجدّداً». وربط المصدر العودة إلى المدارس بما ستقرّره الجمعيات العمومية للروابط التعليمية، إذ أنّ التوجّه العام في حال عدم تلبية الشروط المحقّة، هو نحو عدم كسر إرادة الأساتذة أو التخلّي عن حقوقهم. أمّا عن لقاء الوزير مع ممثّلي المكاتب التربوية في الأحزاب، لحثّهم على تسهيل الأمور والتواصل مع أساتذتهم والتعاطي بمرونة، فأكد المصدر المواكب لهذا الحراك، «أنّ الأحزاب على اختلاف توجّهاتها وخياراتها السياسية، متّفقة ومنسجمة تربوياً، هذا ما لمسناه وسمعنا من كلّ الأطراف»، مشدّداً على «أنّ الأحزاب هي خلف الروابط وفي خدمتها وليس العكس».

المدارس الرسمية والحلول الأهليّة

تنقسم المدارس والثانويات في لبنان بين «سمنة» النازحين ونعيم الجهات المانحة من جهة، وبين المتّكلين على الدولة اللبنانية التي شحّ زيتها من جهة أخرى. تبدأ المدارس في شهر تشرين والحلول غير واضحة. هذا المصير المجهول لم يمنع مدراء المدارس من ممارسة مهامهم وفتح أبواب التسجيل التي ارتفعت إلى 6 ملايين ليرة. مبلغ زهيد جدّاً مقارنة مع المدارس والمعاهد الخاصّة. أحد المدراء في ثانويات المتن الشمالي، كشف أن عدداً من العائلات اللبنانية تمنّى عليه تقسيط الرسم على أكثر من دفعة. في حين أن السوريين كانوا أوّل المبادرين لتسجيل أولادهم. نتحدّث هنا عن المدارس غير المخصّصة لتعليم النازحين، أي التي تستقبل طلاباً من مختلف الجنسيات وبدوام واحد. وأشار في حديث لـ»نداء الوطن» الى أنّه رفض أي مساعدات خارجية أو من الجهات المانحة التي تحوّلت منظّمات ابتزازية واستفزازية: «المال مقابل الدمج». ولفت إلى أن المدارس والثانويات التي تلتزم تعليم السوريين (دوام مسائي) لا تعاني من مشاكل مع أساتذتها وبالتالي غير معنية بالإضرابات ومواقف الروابط التعليمية.

أما بعض المدارس فتتلقّى مساعدات أهلية ومحليّة، أكان عبر البلديات أو من خلال رجال أعمال ومتموّلين ومغتربين. هذا الدعم له إيجابيات وسلبيات. من جهة، يحفظ للطلاب عاماً دراسياً مستقرّاً، ويؤمّن الـ»فريش دولار» للأساتذة والموظّفين ليتمكّنوا من تأدية واجباتهم. من جهّة أخرى، قد تؤدّي هذه المؤازرة أو المساندة، إلى تدخّل الجهات الداعمة في سير أمور المدرسة والتأثير على إدارتها. كما تساهم نوعاً ما في تشتّت العمل النقابي وعدم وقوف هؤلاء الأساتذة إلى جانب زملائهم.

في الخلاصة، حتّى هذه اللحظة لا مؤشّرات إيجابية تلوح في الأفق الرسمي. السنة المقبلة لن تكون أفضل من سابقاتها. الترهّل والتذبذب سيرافقان موسم 2024، مع ما يعنيه من انتكاسات متراكمة تلاحق مدارس الدولة ومعاهدها وشعور طلابها وأساتذتها باليتم، بينما المدارس الخاصّة رغم الصعوبات التي تواجهها أيضاً، لها «أب» يحميها ومؤسسات دينية ومدنية ترعاها وتُسيّر أمورها. وما يثير الاستغراب أنه في ظلّ هذه الأزمة الاقتصادية والمعيشية، نرى أن النزوح هو في الاتجاه المعاكس، فبدل أن تكون المدارس الرسمية وجهة الطلاب، نراهم يتّجهون نحو القطاع الخاص لضمان مستقبلهم التربوي. ما يعني أنّ اللبناني قد يتخلّى عن كلّ شيء وكل الضمانات، ما عدا التعليم الذي يُشكّل هويته الراسخة.