في بلد يحتاج إلى كل شيء تقريباً، ومعه “رحمة الله”، لا يزال طرح المشاريع ومسوّدات الإنقاذ على قدم وساق، بعد سنوات من تفجّر الأزمة.
توقف التفاوض مع صندوق النقد الدولي أو تجمّد، وما عادت آمال الحصول على قروض ميسرة للمساعدة على التعافي ممكنة، فبات الرهان حالياً معقوداً على قدرة السلطات اللبنانية على دفع الأمور باتجاه بناء خطط واقعية وممكنة التحقيق، تنطلق من خلالها الدولة والقطاع الخاص في رحلة التعافي المنشود.
فجوة الـ60 مليار دولار في حسابات #مصرف لبنان، وتداعياتها على المصارف والودائع، تشكل أحد أبرز العوائق التي تقف كصخرة صلبة في طريق إعادة الودائع كلياً أو جزئياً. والعبور إلى معالجة العثرة هذه يحتاج إلى الشروع الفوري في إقرار برامج وخطط مشرعة بقوانين، تعين على إرساء حلول مستدامة.
الحكومة وضعت خطتها التي نالت نصيبها الكبير من الانتقادات لعلل في محاولتها التنصّل من مسؤوليتها المباشرة في هدر موجودات مصرف لبنان، وتحميل المصارف والمودعين الجزء الأكبر منها، وعدم مراعاة التوازن والعدالة في توزيع الخسائر. ولكن لا إنعاش دون عودة الودائع، ولا عودة للودائع أيضاً دون واردات، فيما الاتكال على الخارج كما درج سابقاً صار من الماضي خصوصاً أن الدولة اللبنانية تملك ما يكفي من مؤسسات ومصالح وعقارات وشواطئ بحرية وغيرها، تكفي لو أُحسنت إدارتها لتمويل إعادة جزء كبير من الودائع، وإعادة إحياء القطاع المصرفي ليشارك بدوره في مهمة الإنقاذ.
المصارف أعلنت مراراً استعدادها لتبنّي إعادة جزء من الخسائر، لكنها تحتاج لتحمّل تلك المسؤولية، إلى أن تبادر الدولة بأقصى سرعة إلى إقرار قانوني “الكابيتال كونترول” وهيكلة المصارف، بالإضافة الى خطة تعافٍ واضحة الموارد والأرقام والأهداف.
نحو 15 مليار دولار تقريباً هو حجم الودائع ما دون الـ100 ألف دولار وتشكل 85% من مجموع الودائع، وهو مبلغ قابل للمعالجة، ولإعادته الى أصحابه خلال سنتين أو ما يزيد قليلاً، وفق خبير مطلع يرى أن على الدولة أن تبادر وتتجرأ على اتخاذ القرارات التاريخية، لأن الأزمات الكبرى تحتاج إلى قرارات كبرى.
يرى الخبير المطلع أن 5 مليارات دولار من بقايا الودائع في مصرف لبنان البالغة حالياً 8 مليارات ونصف المليار دولار، تضاف إليها 5 مليارات من احتياطي الذهب بعد تسييل ما يوازيها من السبائك، و5 مليارات أخرى تؤمنها المصارف على سنتين أو ثلاث يمكن أن تعيد الحقوق لغالبية المودعين الفقراء والمتوسطي الدخل وكذلك تعيد الحياة للاقتصاد اللبناني، كما تعيد الحياة للقطاع المصرفي وتخفف من الضغوط على مصرف لبنان ليتفرغ لإعادة رسملة نفسه وصيانة الليرة.
في السياق، لا ينبغي أن ننسى العائدات المتوقعة من استخراج الغاز، وما يمكن أن تشكله من رافد تمويلي لإعادة الودائع، وتعديل ميزان المدفوعات لصالح لبنان، وبهذا يكون لبنان خطا نحو نهاية نفق الانهيار خطواته الأولى، للخروج النهائي من أزماته.
العبور نحو الإنقاذ لا يزال يحتاج إلى شراكة كلية، أولاً بين الدولة والقطاع المصرفي ومعهما مصرف لبنان لإرساء العدالة في توزيع الخسائر والاتفاق على الهوية المصرفية الجديدة للبنان، وثانياً شراكة استشارية وإدارية بين الدولة والقطاع الخاص للاتفاق على الخطوط العريضة لخطط التعافي، لا تقصم ظهور المستثمرين من جهة، ولا تكبّل عمل الدولة من جهة أخرى.
في الانتظار، تتنافس الخطط الحكومية واقتراحات القوانين التي قدّمها بعض النواب على كيفية استعادة الودائع المصرفية، فخطة الحكومة للانتظام المالي وهيكلة المصارف التي أعدّها مستشار رئيس الحكومة سمير الضاهر تتحدث عن دراسة جدوى وآلية إنشاء صندوق استرجاع الودائع لأصحاب حسابات ودائع ما فوق الـ100 ألف دولار، حجمه كحد أقصى 15 مليار دولار. وفق الخطة يحتاج الصندوق الى احتواء أصول موثوقة من شأنها أن تضمن استرداد المودعين فوق الـ100 ألف دولار لحد الـ500 ألف دولار، على أن تتضمن الأصول مساهمة أكبر من الدولة، والاعتراف بدروها في الأزمة والمشاركة في الخسائر المالية، هذه الأصول تشمل الآتي: إيرادات ضريبية، حصّة في أداء الشركات المملوكة، حصة من إنتاجية الأراضي المملوكة للدولة التي تملك نحو 93 ألف عقار مساحتها 860 مليون متر مربع (عقارات مبنيّة وعقارات غير مبنيّة) من دون الأملاك البحرية والنهرية، وحصة من عائدات النفط الغاز المستقبلية المحتملة.
وثمة اقتراحات قوانين تتعلق بإعادة التوازن للنظام المالي، قسمت الودائع المصرفية بالعملات الأجنبية الى ودائع مؤهلة وأخرى غير مؤهلة، يضاف إلى ذلك ما اصطلح على تسميته الأموال الجديدة. وقسمت الودائع بين ما لا يزيد على 100 ألف دولار، وأخرى تزيد على 100 ألف دولار.
وإن كان وفق اقتراحات القوانين هذه يمكن تسديد الودائع تحت الـ100 ألف دولار حسب ملاءة كل مصرف على حدة وقابلية المصرف المعني للاستمرار وفقاً لأحكام قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي العتيد، فإن الودائع التي تزيد على 100 ألف دولار يمكن تحويلها إلى الليرة على سعر يقل عن سعر منصة “صيرفة” وفقاً لآلية تضعها الهيئة المصرفية العليا، إضافة الى إخضاع الودائع المؤهلة وغير المؤهلة بجميع العملات في المصارف غير القابلة للاستمرار، وفقاً لأحكام قانون إعادة هيكلة المصارف (الذي لم يقر بعد)، ولأحكام قانون إنشاء المؤسسة الوطنية لضمان الودائع.
وفيما تؤكد مصادر مطلعة أن الودائع تحت الـ100 ألف دولار التي يبلغ حجمها نحو 15 مليار دولار أي ما نسبته 86% من حجم الودائع يمكن تغطيتها من مصرف لبنان (احتياطي المصرف 8.5 مليارات دولار)، إضافة إلى ما يمكن أن تؤمنه بعض المصارف، لفتت الى أن المشكلة الحقيقية تتعلق بالودائع التي يبلغ حجمها فوق الـ100 ألف دولار، إذ تقدر حجم الودائع بين 100 ألف ومليون دولار بـ40 مليار دولار، فيما يقدَّر حجم الودائع فوق المليون دولار بنحو 36 مليار دولار.
خيار ثالث؟
أمام كل هذه الخيارات المطروحة يبقى الخيار الوسطي هو الأفضل. وفي السياق يبرز “الخيار الثالث” الذي يُطرح في “السياسة”، ويمكن إسقاطه على المعالجات المالية، وهو ما طرحه عضو جمعية مصارف لبنان سعد الأزهري، ولاقى اهتماماً من صندوق النقد وبعض المعنيّين الرسميين… فما هو هذا الخيار؟
مما لا شك فيه أن موضوع استرداد الودائع من المودعين هو في صلب الحل للأزمة المالية اللبنانية ولمشكلة إعادة هيكلة المصارف. وبما أن موضوع استرداد الودائع مرتبط ارتباطاً عضوياً بالفجوة المالية لدى مصرف لبنان التي تبلغ نحو 60 مليار دولار، فإن ردم الفجوة المالية هو “حجر الأساس” في توفير الموارد لإعادة حقوق المودعين.
يؤكد الازهري لـ”النهار” أن “مسؤولية ردم الفجوة المالية تقع على عاتق الدولة لأنها المسؤولة عن “خسائر مصرف لبنان” ولأنها الجهة التي صرفت هذه الودائع على نفقاتها ومشاريعها. ولكن، لا يمكن من منطق الاستدامة المالية، تحميل الدولة أعباءً باهظة كهذه إذ يؤثر ذلك سلباً على جدارتها وعلى قدرتها على تنفيذ مسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية، وقدرتها على الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والدول المانحة. وفي الوقت نفسه، لا يمكن تحميل المودعين أعباء هذه الخسائر لأن ذلك يخالف كلّ مبادئ العدالة والمساواة.
وبناءً على ذلك، يقترح خياراً ثالثاً يمثل حلاً وسطاً وفاضلاً، وهو أن تتحمل كل من المصارف والدولة ردم الفجوة المالية وتوفير الموارد للتعويض عن الودائع. وعلى هذا الأساس، تقوم المصارف بردّ الودائع التي لا تفوق الـ100الف دولار بالتعاون مع مصرف لبنان. أما بالنسبة للودائع التي تفوق الـ100 ألف دولار، فيقترح الأزهري أن تقوم الدولة بإنشاء صندوق مخصّص لاسترداد الودائع يُموَّل من نسبة معينة من مداخيل النفط والغاز المستقبلية (نحو 20%)، كما يصدر الصندوق أسهماً أو حقوق ملكية للمودعين يمكن تداولها في البورصة. إضافة الى ذلك، تُوزّع نسبة من أرباح المصارف العاملة عن طريق تملك المودعين في كل مصرف نسبة من أسهم ذلك المصرف.
هذا الاقتراح “الوسطي” هو حلّ عادل وعملي ويغني عن الحلول الخاطئة برأي الأزهري، كما يسهم وفق ما يقول في إعادة الثقة بالقطاع المصرفي ويحفظ استدامة الدولة المالية وبالطبع حقوق المودعين.
ولكن جميع ما سبق من اقتراحات ومشاريع، يمكنه العبور بالأزمة الى بداية طريق التعافي، لكن ذلك لا ولن يكون أو يتحقق إذا بقيت البلاد تدار وتحكم بعقلية اللامبالاة بمصالح العامة، والاتكالية وحرق الوقت والأفكار، وتفويت الفرص واحدة تلو الأخرى، بينما النار تستعر في الإقليم ولا يعرف غير العالم بالغيب ثقل الآتي أو خرابه لا سمح الله.
النهار