ما مصير أساتذة الجامعات في لبنان؟

صحيح أن رواتب الموظفين، وتحديداً ضمن الفئات الأكاديمية، شهدت انهياراً غير مسبوق، وتحديداً للفئات الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، إلا ظروف معيشة الأستاذة الجامعيين في ظل الانهيار الحاصل باتت صعبة للغاية.

لا تخفي أستاذة مادة القانون مريم د. من أن انهيار الرواتب وتأثيره على حياتها بشكل أساسي، هو ما دفعها للبحث عن فرصة أفضل في إحدى الدول الخليجية. تقول لـ”المدن”: “على الرغم من حصولي على فرصة عمل في إحدى الجامعات في دول الخليج، إلا أن مركزي التعليمي والأكاديمي تأثر بشدة. إذ كنت على وشك الحصول على لقب “الأستذة” بعد أقل من عام، بسبب البحوث المنشورة في المجلات المحكمة، لكن الفرصة تأخرت، بسبب التغيير في مكان العمل، والانشغال في التحضيرات اليومية، واختلاف المناهج بين لبنان والخليج”. تضيف “في لبنان، ومنذ انخفاض قيمة العملة، انهار الراتب، وأضطررت إلى الاستدانة لتأمين المتطلبات اليومية”. حسب تعبيرها، تخلت عن العاملة في المنزل، لأن راتبها بالدولار الأميركي. كما تخلت عن الكثير من العادات الاجتماعية والرياضية، مثل ارتياد النوادي وغيرها.

كانت تتقاضى ما يقارب 4 ملايين و500 ألف ليرة، أي ما يقارب 2500 دولار، انهار الراتب لحدود 200 دولار تقريباً، وهو ما لايكفي لتسديد نفقات ابنتها في الحضانة.

تقول: “من المؤسف، أن يصبح راتبي يوازي القسط الشهري لحضانة ابنتي البالغ 200 دولار، ما اضطرني إلى طلب المساعدة من شقيقاتي المتواجدات في الخليج، ليرسلن لها القسط الشهري لحضانة ابنتها، بالإضافة إلى إيجار المنزل”.

ظروف صعبة
يعيش الأساتذة الجامعيون في لبنان، وتحديداً من يعملون في الجامعة اللبنانية، ظروفاً بالغة الصعوبة. فعلى الرغم من المحاولات الحثيثة لتحسين مستوى الرواتب، إلا أنهم تخلوا عن الكثير من الميزات الاجتماعية والمصاريف. فعلى سبيل المثال، كان لدى الدكتورة مريم د. هاتفين خلويين، الأول مخصص للعمل والثاني للعائلة، لكنها إضطرت إلى وقف أحدهما، بسبب الفواتير، حتى أنها قطعت الانترنت عن منزلها، وباتت تعتمد على إنترنت الجامعة، ما يضطرها للبقاء لساعات طويلة لإنهاء عملها قبل عودتها للبيت. بالمحصلة، تشير إلى أنها فقدت مكانتها الاجتماعية كأستاذة جامعية، بسبب الظروف الاقتصادية.

لا يخفي أحد الأستاذة بدرجة بروفسور في مادة القانون (فضل عدم الكشف عن اسمه) أسفة وندمه لما وصل إليه الحال. يعمل منذ أكثر 25 عاماً في الجامعة اللبنانية، ولم يشهد أصعب من هذه المرحلة، رغم الحروب التي مرت على لبنان. يقول: “منذ عامين، تعيش العائلة على راتب زوجتي. إذ أنها تعمل لصالح إحدى الشركات الأجنبية، وتتقاضى راتبها بالدولار، ومن دون راتبها، لم نكن قادرين على تأمين رغيف الخبز”.

يضيف: “في وقت قصير، تحول راتبي الذين كان يتخطى 6 ملايين ليرة إلى لاشيء، حرفياً”. ويشير إلى أنه كان يعمل في عدة وطائف، ما بين التفرغ في الجامعة، والتعاقد مع الجامعات الخاصة، مع الإشراف على بعض الرسائل للطلاب، وكان على وشك التقاعد مع راتب مرموق، يوازي سنوات الخدمة، إلا أنه وجد نفسه فاقداً لأدنى مقومات الحياة. فعلى سبيل المثال، كان يعتمد بشكل كبير على التعاقد مع الجامعات الخاصة، ويتقاضى على الحصة الواحدة ما يقارب من 220 دولاراً، أي ما يوازي حينها 330 ألف ليرة. لكن مع بدء الانهيار، انخفضت قيمة الراتب لنحو دولارين، وهو مبلغ لا يكفي حتى لتسديد ثمن الوقود.

عجز غير مسبوق
صحيح أن الكثير من الأساتذة هاجروا من لبنان إلى الخارج، لكن ظروف الهجرة لم تكن سهلة، حتى أن بعضهم فشل في الحصول على عمل بسبب السن، واختلاف القوانين بين الدول، خصوصاً في الدراسات الإنسانية. فالدول الأنجلوسكسونية، أي الولايات المتحدة، كندا، المملكة المتحدة لها نظام مختلف في تدريس مواد القانون عن الدول الفرنكوفونية. تعذر على سركيس اصطفان العمل، وهو أستاذ مادة الهندسة الميكانيكية في الجامعة اللبنانية، والذي تفرغ للتدريس والأبحاث خلال مسيرته العلمية السابقة، لكنه اليوم يعيش على مساعدات أبنائه، بعدما انتقل إلى كندا. إذ لم يتمكن من الحصول على أي فرصة عمل بسبب بلوغه 60 عاماً. يقول لـ”المدن”: “المؤسف حقاً، انهيار الراتب التقاعدي، بالنسبة إلى أستاذ عمل طوال حياته بين التدريس والتأليف، يستحق أن يكرم براتب تقاعدي جيد، لكن الأوضاع جعلت من تعويض نهاية الخدمة لا يصلح لتأمين الاحتياجات الأساسية”.

يقول “قبل استقالتي من الجامعة، وتحديداً وسط أزمة الوقود، كنت أضطر في أحيان كثيرة لمقابلة الطلاب في المقاهي القريبة من منزلي، لأنه يتعذر علي الوصول إلى الجامعة”، مضيفاً، كنت أشرف على مشاريع تخرج الطلاب، وكنا نختار مقهى أو حديقة عامة يسهل الوصول إليها سيرا على الأقدام، للاجتماع، وهو ما كان بالنسبة لي أمراً مؤسفاً جداً لما وصلت إليه، ووصل إليه طلاب لبنان.

الضروريات فقط
لا يختلف الوضع كثيراً في الجامعات الخاصة، رغم أن بعضها يسدد راتب الأساتذة بالدولار، لكن الوضع المعيشي اختلف بشكل كبير. لم تعد المداخيل كالسابق. إذ يتم تقسيم الراتب إلى جزئين، الأول بنحو 40 في المئة يتم تقاضيها بالدولار، و60 في المئة يتم تقاضيها حسب سعر المنصة. تخلى الكثير من الأساتذة عن ما كان يعد جزءاً من حياتهم، مثل الإنفاق على ممارسة الرياضة في النوادي المتخصصة، وحتى أن بعضهم يلجأ إلى خيار السير على الأقدام بدلاً من استخدام السيارة، كما أن الإنفاق على بند السفر انخفض أيضاً، سواء أكان ذلك بهدف السياحة أو حتى لحضور مؤتمرات أو المشاركة في الفعاليات. يشير أصطفان إلى أن المؤتمرات الدولية عادة ما توجه دعوات مسبقة الدفع للمشاركين، لكن في أحياناً أخرى، يضطر بعض الأستاذة إلى المشاركة في مؤتمرات أو دورات تدريبية تتطلب تسديد التكاليف، وهو ما واجهه في العام 2022، حين لم يتمكن من المشاركة في دورة تدريبية في جنوب إفريقيا، لأنها تتطلب ما يقارب من 2000 دولار شاملة تذكرة السفر، وهو رقم لا يمكن تسديده.

بجميع الأحوال، لم يخسر أساتذة الجامعات فقط مستواهم المادي، بل مكانتهم الاجتماعية وحوافزهم للعمل والعطاء.