تتعمّق يوماً بعد يوم أزمات تشغيل المرافق والمؤسسات المنتجة للسيولة والرافدة للخزينة بما لا يستهان به من أموال الضرائب والرسوم والعائدات المباشرة، فيما يندر أن نجد مرفقاً من المرافق العامة لا تعتري إدارته وتشغيله مشكلة ما أو أزمة غياب إدارة أصيلة أو مشغل لم يمدّد له عقد التلزيم.
وفي انتظار الخروج من الأزمة السياسية الكبرى المتمثلة بغياب رئيس الجمهورية وشل قدرة حكومة تصريف الأعمال على بت عقود التلزيم، ستتوالد أزمات أخرى وتعصى على الحل أزمات قائمة. ولعل ما يحصل من أخذ ورد وإقفال طويل ومتقطع لهيئة إدارة السير (النافعة)، هو أبرز مثال عن التخبّط الذي تعيشه إدارات الدولة. فهذا المرفق توقف عن العمل بعدما انفجرت فيه قنبلة الفساد والتوقيفات القضائية التي أدّت الى إبعاد أعداد كبيرة من الموظفين عن مزاولة عملهم وبينهم رئيس مصلحة تسجيل السيارات في إدارة السير أيمن عبد الغفور في 24/10/2022، فيما توقفت شركة INKRIPT المشغلة لجهاز المعلوماتية في هيئة إدارة السير والآليات والتي تصدر دفاتر السوق ودفاتر سير المركبات واللوحات الآمنة واللاصقات الإلكترونية عن العمل بتاريخ 31/8/2023 بسبب وجود نزاع مالي بين الشركة والهيئة لعدم تقاضيها مستحقاتها المالية وهي عبارة عن 60 مليار ليرة لبنانية رُصدت لمصلحة الشركة عن عامي 2021-2022 وذلك بسبب تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية.
وبعيداً عن مدى قانونية عمل شركة “انكربت” واستمرارها بتسيير مرفق لسبع سنوات بلا عقد، ومصير البت في طلبات موظفين خرجوا بكفالات وإمكان عودتهم إلى مراكزهم، أدّى إقفال النافعة لأشهر عدة الى تسديد لكمتين، واحدة للدولة والثانية للاقتصاد. فمئات المليارات ضاعت من طريق الدولة التي خسرت خزينتها من إيرادات تُقدّر بنحو 23 مليار ليرة يومياً، فيما أصيب الاقتصاد وخصوصاً قطاع السيارات بارتباكات وعراقيل ليس أقلها أن ألوف السيارات الجديدة والمستعملة تسير على الطرقات من دون تسجيل، وعشرات ألوف المواطنين يقودون سياراتهم من دون دفاتر سوق، إما لعدم حصولهم أصلاً عليها أو لانتهاء صلاحيتها.
وفيما علت أصوات تطالب بتشغيل هذا المرفق بأي طريقة لتسهيل معاملات المواطنين ورفد الخزينة من مزراب الذهب الموجود فيها، تحرك وزير الداخلية بسام مولوي، موعزاً الى من يعنيهم الأمر لتدريب وتشكيل فريق عمل من عديد قوى الأمن الداخلي لتسيير المرفق بما أمكن لتأمين خدماته للمواطنين والإفادة ضمناً من عائداته.
نُفذ الأمر وانطلقت الأعمال، وعشرات العسكريين الذين حظوا بتدريب إداري لبضعة أسابيع استطاعوا تأمين ما أمكن من الخدمات، وهو ما صار موضع تجاذب وشد حبال بين وزير الداخلية الذي يسعى الى تطبيق القانون وإجراء مناقصة جديدة تتحقق فيها شروط التنافسية، وبين من يريد ويعمل فوق الطاولة وتحتها لإبقاء النافعة مسرحاً لفساده ومزراباً لجيوب المتنفذين ومن لم يشبعوا لعشرات سنين خلت من “مصّ دم” هذا المرفق.
ولكن، ما إن أعلن عن مباشرة هيئة إدارة السير (النافعة) استقبال المواطنين للبدء بتسجيل السيارات والحصول على رخص سوق حتى أعلن المستخدمون إضرابهم للمطالبة ببعض حقوقهم، بما طرح أكثر من علامة استفهام حيال التوقيت الذي تزامن مع هجوم على وزير الداخلية وطريقة إدارة المرفق، لاعتبارات عدة وضعتها مصادر متابعة في إطار عرقلة جهود الوزير في إصلاح القطاع بعد وصول قضايا الفساد فيه إلى حدّ لا يمكن لأيّ جهة سياسية تغطيته”.
توازياً، وأمام إصرار الوزير على المضيّ بطريق إصلاح القطاع، وفي الوقت الذي بدأ فيه القطاع يرفد الخزينة بأموال هي في أمسّ الحاجة إليها بدأت حملة ممنهجة عليه، من خلال الحديث عن التعثر والارتباك في عملية إدارة المرفق. تؤكد مصادر في هيئة إدارة السير والآليات (النافعة) لـ”النهار” أن هذه الحملة والإصرار على توقيف القطاع هي عملية كيدية وسياسية وحسابات رخيصة بالدرجة الأولى، إضافة الى أن العملية الإصلاحية أطاحت مصالح الفاسدين، لأن الحملة الإصلاحية التي أعدّها الوزير كفيلة بأن تنطلق بأدوات جديدة بما يرفد الخزينة بالأموال اللازمة، وهو ما بدا واضحاً من المبلغ الذي حققته النافعة والذي قُدّر بنحو 147 مليار ليرة لبنانية خلال 9 أيام عمل فقط، والذي يمكن أن يصل خلال شهر الى نحو 600 مليار ليرة. وتالياً تشدد المصادر على أن من سخريات القدر الاستمرار في ذر الرماد في العيون وحرف الحقيقة من خلال التصدّي السلبي لمسار عمل مؤسسة “النافعة” التي بدأت برفد خزينة الدولة، وفي الإعلان عن تقديم خدمات جديدة لتسهيل حياة المواطنين وسلامتهم وأمنهم، وفتح المراكز المقفلة فيها قريباً جداً تباعاً (جونية وعاليه والأوزاعي)”. وإذ أكدت المصادر أنه ليس مستغرباً أن يستخدم المتضررون الموظفين كفتيل لإجهاض أي عملية إصلاح، مع التأكيد على أحقية مطالبهم، وما توقيت الإضراب إلا دليل على أن ثمة جهة تحرّض الموظفين، علماً بأنه تم تأمين اعتمادات بدل النقل، فيما ستؤمن بقية الحقوق تباعاً. وكذلك يتم تأمين بعض المبالغ من لوحات التسجيل الآمنة لسيارات السياحة الخصوصية والدراجات النارية وسيارات السياحة العمومية وآليات الشحن الخصوصي والعمومي لشراء القرطاسية والمحروقات كلوازم العمل، بما سيوفر على الخزينة نحو 37 مليار ليرة سنوياً.
ووفق المعلومات فقد انضم نحو 34 عنصراً متقاعداً من قوى الأمن الداخلي الى عديد الموظفين في “النافعة” بعدما خضعوا لدورة تدريبية مكثفة ليصبح عددهم نحو 55 موظفاً، فيما يخضع 34 عنصراً آخر لدورات تدريبية مماثلة لتسيير بقية الخدمات التي ستقدّم تدريجاً الى حين انتهاء العقد مع “انكربت” في آخر السنة الجارية، على أن يصار بعدها الى فتح كل المراكز على مستوى لبنان بما فيها مركز الأوزاعي. ومن المتوقع أن يصل عدد الموظفين تباعاً الى نحو 150 متقاعداً وموظفاً سيتعاونون على إدارة المرفق وتسييره، على أن يصار الى وضع مراقبين من الأجهزة الأمنية للإشراف على سير العمل فيه.
وتؤكد المصادر أن وزير الداخلية مصر على منع المتضررين من تحقيق غايتهم بوقف المرفق، ولو في ظل استمرار إضراب الموظفين الذين سيحال المحرّضون منهم على الأجهزة الرقابية المعنية، فيما الأمور المطلبية تجري معالجتها تدريجاً، بدليل أن بدل النقل سلك مساره الإداري والتقني، أما بقية الأمور المطلبية فسيتم بتّها عن طريق مجلس الوزراء مثل موضوع الرواتب (الردّيات).
وإذ أكدت المصادر أن “وزير الداخلية لن يسمح عبر الإجراءات والتدابير التي يشرف عليها شخصياً ويومياً بأن يتوقف مسار النافعة عن العمل”، دعت الى “تحمّل كل شخص وزر عمله، فالوزير يؤكد استمرارية المرفق العام وعدم توقفه لأي سبب أو عقبة، فلا رجوع الى الوراء، وحقوق الموظفين محفوظة ومستحقاتهم من تعويضات مؤقتة وبدل النقل سلكت مسارها الإداري والمالي الطبيعي”.
توازياً أكدت مصادر متابعة أنه سيصار إلى تحديد موعد المناقصة الجديدة قريباً، وستخضع لقانون الشراء العام، نافية أن يتم التمديد أو التجديد لـ”إنكربت”، فهذا الإجراء له موجباته في مراحل استثنائية وهو ما لا يتوافر حالياً، لافتة الى أنه يمكن لـ”إنكربت” المشاركة في المناقصة ما لم تكن ثمة شوائب قانونية في ملفها.