أسوأ ما يُقال اليوم، هو انّ الدولة لا تستطيع تسديد ديونها، وبالتالي، أي محاولة لربط إعادة الودائع بالديون السيادية، هو مضيعة للوقت، ولن ينجح. في الموازاة، يعرف من يقول هذا الكلام ان لا اموال في المصارف لإعادة الودائع، لأنّ هذه الاموال كانت مودعة لدى مصرف لبنان، وقد «سطت» عليها الدولة وبذّرتها. فهل تعني هذه المعادلة انّ الودائع لن تعود؟
السؤال كان مطروحاً منذ ان تظهّرت الحقيقة في شأن الطريقة التي أدّت الى تبدُّد الاموال، لكن هذا السؤال قفز الى الواجهة، بعد مذكرة ربط النزاع التي رفعتها المصارف في وجه الدولة، لمطالبتها بدفع ديونها والتزاماتها الى مصرف لبنان، لكي يتمكّن بدوره من تسديد التزاماته للمصارف، والتي تقارب الـ 80 مليار دولار، وصولاً الى أن تتمكّن المصارف نفسها من دفع الودائع الى اصحابها.
فهل صحيح انّ خطوة مقاضاة الدولة هي مجرد رفع عتب، ولذرّ الرماد في العيون، ولكي يعرف المودعون انّ الدولة هي من أنفقت اموالهم، وتبرئ المصارف ذمّتها، وكان الله يحب المحسنين؟
هذا الاستنتاج لا يقع في موقعه الصحيح. وإذا كان البعض يقيس وضعية الدولة من الناحية المالية استناداً الى ايراداتها الحالية، واستناداً كذلك الى اوضاع موظفيها الذين باتت معدلات رواتبهم لا تكفي لدفع فاتورة كهرباء، والى مشهد الادارات العامة التي تعجز عن إنجاز المعاملات بسبب افتقارها الى ادوات القرطاسية، فهو مخطئ حتماً. الدولة غنية وقادرة على دفع التزاماتها، او قسم كبير منها على الاقل. والدليل انّ هذه الدولة التي هبط موظفوها في مداخيلهم الشرعية الى مستوى الفقر المدقع، يوجد عدد كبير منهم في عداد الأثرياء الكبار. وهؤلاء لم يجمعوا ثرواتهم بالوراثة، بل بالفساد والرشاوى.
وبالتالي، اصبح معروفاً انّ تغيير إدارة الدولة بفسادها المستشري من الرأس حتى القعر، سوف يغيّر الإيرادات بنسب لا علاقة لها بالمستويات القائمة اليوم. لكن المشكلة انّ المنظومة السياسية لا تريد ان نصل الى نقطة تسليم ادارة مؤسسات واصول الدولة الى القطاع الخاص، لأنّ هذه الادارات هي مرتع لسرقة المال، وتوظيف الأزلام والمحاسيب، وتجميع الاصوات الانتخابية، وحماية الذات من السقوط.
الدولة اليوم، بما تملك من اصول، وبما تملك من مؤسسات، وبواسطة سلطة التوقيع على كل المعاملات والتراخيص والإعفاءات والامتيازات، قادرة على الانتقال من العجز السنوي الدائم، الى فائض محترم يمكن استخدامه في تسديد الديون، خصوصاً انّ المطروح جدولة طويلة الأمد قد تمتد الى عشرين سنة.
كذلك تملك الدولة الاحتياطي من الذهب والذي فاقت قيمته اليوم، بسبب ارتفاع اسعار المعدن الاصفر، اكثر من 18 مليار دولار. وبالمناسبة، هل يمكن النظر بإيجابية الى ملف الذهب، المحمي بقانون يمنع بيعه؟
المفارقة في هذا الموضوع، انّ المنظومة السياسية، تعترف من خلال هذا القانون، بعجزها عن حماية الثروات، وبعدم صلاحياتها لكي يتمّ ائتمانها على الاحتياطي الذهبي. وهذا الامر واقعي جداً، بدليل انّ الاحتياطي النقدي الذي كان موجوداً في مصرف لبنان قبل تشرين 2019، (حوالى 32 مليار دولار) تمّ تبديده، ولم يبق منه سوى 7 مليارات دولار.
المفارقة الثانية، انّ الدولة التي كانت تبحث عن السارق لتعرف اين ذهبت الاموال، وكلّفت شركة عالمية بإجراء تدقيق جنائي في مصرف لبنان، فوجئت بأنّ التقرير الجنائي يدينها دون سواها، ويشير اليها بالاصبع في عملية سرقة وهدر اموال الناس، التي كانت مودعة في مصرفها المركزي.
في كل الاحوال، الطرف الاول الذي استدرك هذه المعادلة ورفضها هو مصرف لبنان نفسه، بعد تسلّم وسيم منصوري مقدّرات ادارة المصرف مع المجلس المركزي. وكان اول قرار اتخذه في الاول من آب، اي في اليوم الاول لتسلّمه مهامه، هو وقف إقراض الدولة، ومنعها من مدّ يدها على اموال الناس. وكان هذا القرار بمثابة المواجهة الاولى التي قام بها منصوري مع الدولة. وبالتالي، فإنّ مذكرة ربط النزاع، والمقاضاة لاحقاً، التي قد تلجأ اليها المصارف، ما هي سوى استكمال لما بدأه مصرف لبنان نفسه. وبالتالي، فإنّ المصارف باتت تقف وراء منصوري وليس العكس. واصبح الاثنان في خندق واحد، لتحصيل الحقوق لأصحابها.
أما المغالون في رفض تحميل الدولة أية مسؤولية، رغم وضوح مسؤوليتها في الوقائع وفي التقارير، ومنها التدقيق الجنائي الذي طلبت إنجازه الدولة نفسها، ودفعت تكاليفه من الخزينة، لم يعد مجدياً النقاش معهم، لأنّه بات واضحاً انّ مواقفهم لا علاقة لها بالإنقاذ ومعالجة الأزمة، وإعادة حقوق الناس، بل تستند، على الأرجح، الى أهداف اخرى، يصعُب النقاش فيها.
المصدر: أنطوان فرح – الجمهورية