جديد مصرف لبنان … إليكم ما يجري في هذه اللحظة!
إيقاف العمل بأحكام التعميم الأساسي 151، والعودة إلى اعتماد وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي في تسديد فواتير الاستهلاك للأفراد والمصاريف التشغيلية للمؤسّسات، هي إجراءات ليست بحاجة إلى قوانين ولا إلى رأسمال، وتساعد مكوّنات الاقتصاد على الصمود والإنعاش والتعافي.
منذ قبول حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة تولّي مسؤولية إدارة البلاد عوضاً عن السلطة السياسية الفاسدة والفاشلة، لجأ المجلس المركزي لمصرف لبنان، المكلّف بإقرار السياسات النقدية والسهر على حسن تنفيذها، إلى إنتاج تعاميم إجرائية تحمل في الكلمات الأولى من عنوانها تعبير “إجراءات استثنائية”، وكانت بأغلبيّتها إمّا حول السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الأجنبية (التعميم الأساسي رقم 151 الذي يتيح دفع جزء من الودائع على سعر صرف 15 ألف ليرة حالياً) أو لتسديد تدريجي لودائع بالعملات الأجنبية (التعميم الأساسي رقم 158، الذي يتيح دفع جزء من الودائع بقيمة 400 أو 300 دولار شهرياً من كلّ حساب مكوّن بالعملة الأجنبية قبل 17 تشرين الأوّل 2019).
في زمن الأزمات التي كان سببها خللاً بنيويّاً، يتوجّب على السلطة النقدية أن لا تُدير الاقتصاد وتتحكّم بالوضع المعيشي للمواطن بإجراءات استثنائية. وكان دائماً يتحصّن المجلس المركزي لمصرف لبنان بقانون النقد والتسليف، ويعود بالزمن إلى قرارات أساسية كان قد اتّخذها في زمن الرخاء لإدارة البلاد في زمن العسر والضائقة. وتأكيداً على حرص مصرف لبنان على المسؤولية والمصداقية في إدارة الأزمات، كان يحرص على إضافة جملة “حفاظاً على المصلحة العامّة في الظروف الاستثنائية الراھنة التي تمرّ بھا البلاد حالياً”. وللإضاءة على تمسّكه بنهج الحوكمة (Governance) في إدارة عمل المصرف المركزي، كلّ التعاميم التي تنظّم الإجراءات الاستثنائية تتضمّن الجملة “وبناء على قرار المجلس المركزي لمصرف لبنان المتّخذ في جلسته المنعقدة بتاريخ …” . ولم يكن باستطاعة أحد تأكيد أو نفي انعقاد ذلك الاجتماع، مع لفت النظر إلى أنّ تقرير التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان نوّه إلى أنّ صوتاً واحداً كان يسيطر على هذه الاجتماعات، وهو صوت الحاكم بأمر السلطة النقدية.
151: التأسيس لتجارة الشيكات
أصدر مصرف لبنان التعميم 151 في 21 نيسان من سنة 2020 بصياغة ذكية لكن لا تتناغم مع مقدّمة تعاميمه لجهة الحفاظ على المصلحة العامة في هذه الظروف الاستثنائية. المادّة الأولى من التعميم 151 تؤكّد ضرورة التعاطي الإيجابي والتعاون “في حال طلب أيّ عميل إجراء أيّة سحوبات أو عمليات صندوق نقداً من الحسابات أو من المسـتحقّات العائدة له بالعملات الأجنبية”، وللتأكيد يكرّر في المادّة ذاتها أنّ “على المصارف العاملة في لبنان، شرط موافقة العميل المعنيّ، أن تقوم بتسـديد ما يوازي قيمتهـا (أي قيمة السحوبات) بالليرة اللبنانية ولسعر تغيّر من 3,900 إلى 8,000 ثمّ إلى 15,000 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد لعمليات الصرافة”. وترك المصرف المركزي للمصرف التجاري حرّية تحديد سقوف السحب النقدي تارة، وحدّدها هو تارة أخرى عند تجديد العمل بأحكام هذا التعميم مع غياب تامّ للرقابة على حسن الامتثال لأحكام هذا التعميم. مع الإشارة إلى أنّ تحديد سقف السحوبات تُرك للمصرف التجاري في النسخة الأولى للتعميم: “وذلك استناداً للإجراءات والحدود المعتمدة لدى المصرف المعنيّ”، وجرى تناسي أنّ تحديد هذه السقوف يبدأ في أروقة مصرف لبنان، لكنّه (أي مصرف لبنان) اتّعظ وقام باللازم.
بغضّ النظر عن ردّات الفعل التي تمّ نشرها والتداول بها على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، نشطت بعد ذلك السحوبات من الحسابات بالعملات الأجنبية وتجارة الشيكات لأنّ هذا التعميم أسّس لإنشاء مساحة كافية ووافية للمحتكرين لاستثمار عاملين أساسيَّين:
- خوف المواطن من فقدان مدّخراته.
- وفقدان الثقة بالنظام المصرفي في البلاد.
وعزّز هذا التداول بالشيكات الغياب التامّ للرقابة من قبل المصارف على ذاتها، وهنا توجد مسؤولية أخلاقية ومهنية، وأيضاً غياب دور لجنة الرقابة على المصارف. وبعد سنة تقريباً على سريان مفعول هذا التعميم تقدّم ثلاثة محامين بطعن لدى مجلس شورى الدولة لمخالفة هذا التعميم للقوانين اللبنانية من قانون التجارة وقانون النقد والتسليف. وأصدر المجلس قراره الإعدادي بإلغاء التعميم 151 وتبلّغ مصرف لبنان قرار مجلس شورى الدولة رقم 213/2021 في 2 حزيران 2021. ولتفادي أيّ إرباك قد ينتج عن هذا القرار من أعلى سلطة قضائية في البلاد، عمّمت جمعية مصارف لبنان على المصارف ضرورة التروّي قبل التوقّف عن العمل بأحكام التعميم 151 في انتظار قرار توضيحي من مصرف لبنان. وخوفاً من المجهول وما قد تحمله الأيام المقبلة، اصطفّ المواطنون، في ساعات متأخّرة من مساء يوم الأربعاء في 2 حزيران 2021، أمام الصرّافات الآلية في محاولةٍ لسحب ما تيسّر من أموالهم المودعة بعد إعلان مصرف لبنان تبلّغه قرار مجلس الشورى وتعليق العمل بالتعميم القاضي بسحب الدولار على أساس سعر، آنذاك، 3,900 ليرة للدولار الواحد.
في سياق توزيع الأدوار بين السلطات النقدية والسياسية التي غالباً ما تؤدّي إلى سحق القدرات المعيشية للمواطن، سارع رئيس جمهورية لبنان العظيم لاستدعاء (وليس لدعوة) حاكم المركزي ورئيس مجلس شورى الدولة إلى القصر الجمهوري، وعُقد اجتماع بحضور مستشار العهد سليم جريصاتي واتُّخذ “قرار الرجوع عن القرار”، أي الاستمرار بالعمل بأحكام التعميم 151. الحقّ يقال أنّ مجلس شورى الدولة حاول إعادة الحقّ لأصحاب الودائع، لكن للأسف القرار جاء مجتزءاً لناحية عدم إلزام المصارف بردّ الوديعة بعملتها وعدم قدرة هذا المجلس على فرض ردّ هذه الودائع بنفس العملة، واقتصر القرار على فرض عدم ردّ الوديعة بسعر 3,900 ليرة لبنانية للدولار الواحد.
158… و”إسكات” القضاء
في ظلّ ما حصل ويحصل، الأسئلة التي تطرح نفسها كثيرة:
- هل تَتَّخذ تعاميم مصرف لبنان صفة تشريعية تفوق بأهميّتها ما هو موجود في قانون التجارة، وقانون الموجبات والعقود، وقانون النقد والتسليف، وقرارات أعلى سلطة قضائية في البلاد كمجلس شورى الدولة؟
- هل تعتبر المصارف مخالفة لقرار مجلس شورى الدولة، وهذا قد يعرّضها للمساءلة القانونية، أم هي محصّنة من أيّ اتّهام بمخالفتها القانون من خلال امتثالها لأحكام تعاميم مصرف لبنان؟
- وهل لجأت المصارف لاستشارة قانونية لتفادي المفاجآت غير السارّة لجهة إجراءات الامتثال لأحكام تعاميم مصرف لبنان؟
هناك ضرورة للتذكير بأنّ ما تقدّمت به لجنة الإدارة والعدل في مشروع قانون الكابيتال كونترول الذي أصدرته كان هناك إشارة إلى عدم قانونية أيّ تعميم يؤدّي إلى استقطاع من ودائع المواطنين بطريقة غير عادلة وفيها إجحاف للمواطن، وبذلك تعتبر غير قانونية. أيام قليلة جداً تفصل صدور التعميم الأساسي 158 عن قرار مجلس شورى الدولة لجهة قبول الطعن المقدّم بالتعميم 151. فهل هي صدفة أم كانت محاولة للحفاظ على ماء الوجه وتلميع صورة الحكم بعد الفشل الذي غيّم على هذا “العهد القوي”، أو قد يكون الهدف من هذا التعميم هو إرسال رسالة إلى مجلس شورى الدولة مفادها أنّ “الأمر لي”؟
هل إصدار المركزي التعميم الأساسي 158 في 8 حزيران 2021 لإطلاق عجلة التسديد التدريجي، وليس الكلّي أو الجزئي، للودائع مستهدفاً أصحاب الودائع الصغيرة (أصحاب الأرصدة دون 50,000 دولار أميركي) هو لإقصائهم عن القطاع المصرفي كما كان قد أسّس لهذا “الاستبعاد المالي” التعميم الأساسي رقم 148؟!
اليوم نحن في الأيام الأولى من العام 2024، والعدّ العكسي لمصير السحوبات من الحسابات المكونة بالدولار المحلي انطلق، وأصحاب هذه الودائع ينتظرون ما ستحمل السنة هذه من مفاجآت لهم. أما التعميم الأساسي لمصرف لبنان رقم 151 فقد انتهت صلاحياته وهي خطوة مباركة.
المؤكد اليوم هو أن مصرف لبنان تخلى عن قسط كبير من الصلاحيات الإستثنائية التي أعطيت له خلال سنوات الأزمة ومن أهمها تحديد سعر الصرف الرسمي، وصرح الحاكم بالإنابة في عدة محطات بأن السحوبات خارج إطار ما هو متوفر تحت أحكام التعميم الأساسي رقم 158 سوف تكون على سعر الصرف الرسمي إما الحالي، وهو 15000 ليرة للدولار الواحد، أو إذا تم تعديله من قبل السلطة صاحبة الاختصاص (أي المجلس النيابي)، عندها يتم اعتماد السعر الجديد من قبل المصارف عند تلبية طلب السحوبات من قبل أصحاب هذه الحسابات. الأكيد اليوم هو رسالة مصرف لبنان ومفادها أن المودع والمصارف ليسوا بحاجة إلى تعميم من مصرف لبنان لتأمين السحوبات على سعر الصرف الرسمي. لأنّ قانون النقد والتسليف يؤمن الغطاء القانوني لصرف السحوبات من الحسابات المكونة بالعملة الأجنبية على سعر الصرف الرسمي، على أمل أن لا تمتد عدوى هذه الممارسات إلى الحسابات “الفريش” المكونة تحت أحكام التعميم الأساسي رقم 150.
حسناً فعل حاكم مصرف لبنان في تعديل سعر صرف منصة صيرفة (المعطوف على تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 161) إلى 89500 ليرة للدولار الواحد. الآن بات سهلاً على مكونات السلطة الحاكمة للذهاب إلى اعتماد هذا السعر في إحتساب نفقات وإيرادات الدولة في مشروع الموازنة العامة للعام 2024، ومن ثم اعتماده السعر الرسمي الجديد. وبهذا نكون قد أطلقنا عجلة حل معضلة أرصدة الحسابات المكونة بالدولار المحلي. وإذا استمرّت السلطة الحاكمة في الهروب من مسؤوليتها في إقرار قانون الكبيتال كنترول، باستطاعة مصرف لبنان إدارة السحوبات من خلال العودة إلى العمل بوسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي (شيكات، بطاقات دفع وإئتمان، وتحويل…) للحد من المضاربة في سوق القطع الأجنبي، ومن الضغوطات التضخمية التي قد تنتج عن السحوبات النقدية.
وإذا تابعت السلطة السياسية سياسة التخلّي عن صلاحيتها في تحديد سعر الصرف الرسمي، سنشهد إصدار تعميم جديد لتحديد سقف السحوبات من هذه الحسابات.
ليعلم حاكم مصرف لبنان بالإنابة، الدكتور وسيم منصوري، و فريق عمله، السادة أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان، بأن أعين وآذان المواطنين عليهم وفي ذلك مسؤولية كبيرة. إذ فَقَدَ المواطن الثقة بمكوّنات الطبقة السياسية ويَجِدْ أملاً وفرجاً في أداء السلطة النقدية. فليكن لحاكم مصرف لبنان إطلالة جديدة وسريعة يشرح فيها للمواطن والوطن مصير الودائع بالدولار المحلي وماذا ينتظرهم في هذا الإطار. لأنّ صمت مصرف لبنان يضع المواطن تحت رحمة من يمارس نهج الترغيب والترهيب على المواطنين. وأخصّ بالذكر المواطن المتقاعد الذي لا حول ولا قوة له في تمويل فاتورة الإستهلاك سوى وديعته المصرفية.
توحيد سعر الصرف
الأسئلة كثيرة والأجوبة معدومة! قال وكرّر في عدد من المناسبات حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري أنّه سوف يذهب إلى اعتماد سعر الصرف الرسمي الذي هو اليوم 15,000 ليرة للدولار الواحد على أنّه سعر الصرف الذي سوف يُعتمد في تأمين السحوبات من أرصدة الحسابات بالدولار المحلّي، وعطف هذا الإجراء على حتمية اعتماد سعر صرف رسمي جديد في سياق إقرار قانون الموازنة العامة لعام 2024، وأخيراً وكأنّه أكّد عدم تجديد العمل بأحكام التعميم الأساسي 151.
حسناً فعل حاكم مصرف لبنان في تعديل سعر صرف منصّة صيرفة (المعطوف على تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 161) إلى 89,500 ليرة للدولار الواحد. الآن بات سهلاً على مكوّنات السلطة الحاكمة الذهاب إلى اعتماد هذا السعر في احتساب نفقات وإيرادات الدولة في مشروع الموازنة العامة لعام 2024، ثمّ اعتماده السعر الرسمي الجديد. وبهذا نكون قد أطلقنا عجلة حلّ معضلة أرصدة الحسابات المكوّنة بالدولار المحلي. وإن تابعت السلطة الحاكمة الهروب من مسؤوليّتها في إقرار قانون الكابيتال كونترول، فباستطاعة مصرف لبنان إدارة السحوبات من خلال العودة إلى العمل بوسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي (شيكات، بطاقات دفع وائتمان، وتحويل …) للحدّ من المضاربة في سوق القطع الأجنبي، والضغوطات التضخّمية التي قد تنتج عن السحوبات النقدية.
ليعلم حاكم مصرف لبنان بالإنابة، الدكتور وسيم منصوري، وفريق عمله، السادة أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان، أنّ أعين وآذان المواطنين عليهم، وفي ذلك مسؤولية كبيرة. فَقَدَ المواطن الثقة بمكوّنات الطبقة السياسية ويَجِد أملاً وفرجاً في أداء السلطة النقدية. فليكن لحاكم مصرف لبنان إطلالة جديدة وسريعة يشرح فيها للمواطن والوطن مصير الودائع بالدولار المحلّي، وماذا ينتظرهما في هذا الإطار. يضع صمتُ مصرف لبنان المواطنَ تحت رحمة من يمارس نهج الترغيب والترهيب على المواطنين، وأخصّ بالذكر المواطن المتقاعد الذي لا حول ولا قوة له في تمويل فاتورة الاستهلاك سوى وديعته المصرفية.