تحدّيات كبيرة في الـ 2024.. هل ينهض لبنان اقتصادياً؟

تتزاحم التحدّيات الاقتصادية التي يُواجهها لبنان مع إقفال باب العام 2023، الذي ترك للسنة الجديدة إرثاً كبيراً من الأزمات ليس من السهل الوصول إلى حلول قريبة لها في ظلّ عقم سياسي وخواء فكري يعجز عن ربط قرار سياسي جدّي بالحلول التقنية ومن الطبيعي أن تتعلّق بالانتظام المالي أو إعادة الثقة بلبنان والقطاع المصرفي بعد التعثّر الكبير منذ بداية الأزمة. ولن يكون الوضع المالي هو المشكلة فقط مع ازدياد منسوب الهجرة التي توحي بشيخوخة قريبة تضرب كل مقوّمات الصمود الاقتصادي إضافة إلى العثرات الصناعية والزراعية وتراجع نسبة النمو ما ساهم بتراجع لبنان إلى مصافّ الدول المنكوبة.

الملفّ السياسي «مكربج البلد»

قبل الحديث عن التحدّيات الاقتصادية، تطرّق وزير الاقتصاد والتجارة السابق منصور بطيش خلال حديثه الى «نداء الوطن» الى الوضع في البلد فقال: «يعيش لبنان حالة خواء فكري وعُقم سياسي. الحلول التقنية بالتأكيد موجودة، إلا أنها وحدها لا تَكفي، والمَطلوب أن تترافق مع مناخ سياسي يساعد على وضعها موضع التنفيذ. المشكلة تكمن في أنّ كل حلّ يُطرح لمصلحة البلد والمجتمع يتعرَّض إلى الإجهاض على يد المنظومة المتحكّمة بمفاصل الدولة، فهي تَحول دون أي إصلاح جدّي بالتنسيق والتعاون مع المستفيدين من الوضع الراهن ومن عدم كشف حقائق الجريمة المالية التي ارتكبَت بحقّ لبنان وشعبه على يد من كان يفترض بهم وفق القانون حماية حقوق الناس. للأسف، «حاميها حَراميها»، ولا نهوض يُرتجى من دون مساءلة مسبِّبي السُقوط».

ويعتبر بطيش خلال حديث مع صحيفة «نداء الوطن» أن «الانطلاق اليوم بأي حلّ يقتضي عدم فصل الاقتصاد عن السياسة والملف السياسي «مكربج» في البلد. وأي خطة أو خطوة أو موقف يتناول الملف الاقتصادي، المفتَرض أن يأخذ شؤون المواطنين والمجتمع في الاعتبار، هذا ولم يُحَقق فيه أي إنجازات على الرغم من مرور أربعة أعوام وثلاثة أشهر على 17 تشرين 2019. هذا يعود بنتائج تخدم مصالح القوى المتحكِّمة بمفاصل البلد والتي أوصلته إلى الانهيار الذي يشهده حاليّاً، وبطبيعة الحال، من أودى بالبلد إلى هذا الوضع المأسوي لا يمكنه الوصول به إلى الخلاص».

لا يمكن «الإتّكال» على قطاعات محدودة

ويأسف بطيش على»وجود تحدّيات كبيرة تعيق تطبيق الحلول في لبنان. نسمع أحاديث يوميّة عن زيارة أعداد السيّاح والمغتربين والانعكاسات الإيجابية لذلك على الدورة الاقتصادية. لكن، هؤلاء هم أولادنا وإخوتنا الذين غادرونا وتركوا بلدهم للبحث عن فرص عمل في الخارج وهم يأتون لتمضية أسبوعين أو ثلاثة كحدّ أقصى مع أهلهم خلال عيدي الميلاد ورأس السنة، وشهر أو اثنين خلال فصل الصيف ليعودوا ويغادروا في النهاية. لا يمكن لاقتصاد بلد بأكمله «الاتّكال» على قطاعات محدودة ولفترة شهرين من أصل 12 لتحسين حركته، بل هو بحاجة إلى الارتكاز على الإنتاج المحلّي المستدام وعلى «الإطمئنان» السياسي والأمان على المديين القريب والبعيد، وهذه الحالة لا تنطبق على الوضع الراهن». معتبراً أن «المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية الموجودة ما زالت هي نفسها من دون أن تقوم الجهات المسؤولة بأي إصلاحات بل هي تكتفي بالرهان على لعبة الوقت في حين أن الشعب بمعظمه بات يئِنّ من الفقر والعوَز والهوان». ويعود بطيش ويشدّد على عدم «إمكانية تجاهل الجانب الاجتماعي للتحديات التي يعيشها البلد، صحيح أن طابعها العام يبدو اقتصاديّاً، غير أنّها أيضاً تحدّيات اجتماعية على مختلف الأصعدة وأوّلها السياسية والتربوية والاستشفائية والبيئية»، مضيفاً «المأساة الخارجة عن إرادتنا ليست فقط الوحيدة المسؤولة عن إيصالنا إلى هذا القعر، بل إنّ المتحكِّمين بمفاصل البلد في السياسة والمال والاقتصاد والقضاء تهرّبوا ولا يزالون من مُحاسبة المسؤولين عن الواقع، ومن المستحيل أن تكون هناك جريمة من دون وجود مجرمين».

الحلّ «رؤيوي» من خلال استراتيجية متكاملة

والحلّ في نَظر بطيش «يجب أن يكون رؤيويّاً يضع استراتيجية متكاملة للسنوات المقبلة، وأن تكون الحلول اقتصادية واجتماعية وتربوية واستشفائية وبيئية، وخصوصاً سياسية، لنتمكن من طمأنة الناس إلى الغد والمستقبل وليعود أولادنا إلى بلدهم. أما البقاء على هذه الحالة ومن دون إرساء سلّم قيم يُعيد الاعتبار لمفاهيم العمل في الشأن العام، فيعني أنّ لا رجاء بمستقبل أفضل. إنّ طريقة التفكير الراهنة وثقافة الربح السريع وتفضيل الجَماعة والطائفة على الوطن، مصيرها الحتمي الفشل، وما من أمل ما لم نغيّر ما بأنفسنا من أجل بناء بلدنا».

التحدي الأكبر

من جهته رأى المُحلل المالي د. غسان شماس أن «التحدي الأكبر الذي يجب التحدّث عنه لهذا العام من أجل استتباب وانتظام أمور البلد على مختلف الأصعدة مبنيّ على عمودين: الأوّل مالي والثاني نقدي. المصرف المركزي هو المسؤول عن الاستقرار النقدي، أما الدولة فمن واجبها اتّخاذ خطوات وإجراءات مقابلة له تؤدي إلى الاستقرار المالي».

الفرق بين النقد والمال كبير جداً

ويشير شماس خلال حديثٍ مع «نداء الوطن» إلى أن «الفرق بين النقد والمال كبير جداً، بمعنى أنّه لا يمكن للبلد الاعتماد على المصرف المركزي حصراً، على اعتبار أنه عمل على خطة نقدية أدّت إلى انتظام الكتلة النقدية في البلد، حيث انخفضت من 75 تريليون ليرة لبنانية إلى ما يقارب الـ 40 أو 45 تريليون ليرة، الأمر الذي ساهم في لجم سعر صرف الدولار الموازي، من دون أن تضع الدولة في المقابل خطة مالية. الأكيد أن ما من استقرار مالي في البلد وما من إجراءات مالية تؤسس لإنتاجية الثروة عبر خطة اقتصادية مالية، في حين أن المسؤول عن ذلك غير معروف. إذاً، يترتّب علينا تحديد الفرق الكبير جداً بين المستويين النقدي والمالي والتمييز بينهما، خصوصاً أن لبنان بحاجة إلى خطة مالية وأخرى نقدية تسيران بالتوازي، للتخفيف من التحدي الاقتصادي الذي يواجه شعبه والوصول به إلى برّ الأمان».

التحدّي الأكبر: عدم إنتظام الرواتب

والسّؤال الأهمّ بالنسبة إلى شماس: «هل هناك خطة اليوم لتعديل الرواتب فتصبح متوازية ما بين القطاعين العام والخاص؟»، مضيفاً «هذه المسألة تؤثر على البلد بأكمله وتعرقل العمل فيه، فالدولة تغضّ النظر عن موظّفيها الذين يعملون يوماً أو اثنين في الأسبوع»، مذكّراً «ألا علاقة للمصرف المركزي بهذا الملف، بل هو من مسؤوليات الدولة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الانتظام المالي في القطاع العام في لبنان، إذ إن الرواتب غير منتظمة وهذا من أكبر التحدّيات التي نواجهها محلياً، من هنا تأتي أهمية وضع خطة مالية توضح قيمة الموازنة سنوياً، انطلاقاً من تحديد قيمة الرواتب مقابل المداخيل من ضرائب وغيرها لمعرفة ما إذا كان هناك عجز في الموازنة، وهذا من الخطوات الأساسية التي تساعد على تحقيق الانتظام المالي». ويشرح أن «الموازنة شبيهة بميزان له جهتان يجب أن تكونا متوازيتين هما المصروف والمدخول، في حين أن الموازنة التي تتمّ مناقشتها قد تكون أوزانها حبراً على الورق لأن الأرقام فيها غير دقيقة».

بناءً على ما تقدّم، يُعيد شماس التشديد على أن «التحدي الكبير هو اعتماد خطة مالية للسير بالبلد نحو التعافي، وعندما يتمّ إنجاز ذلك تكون الخطوة اللاحقة استعادة الودائع. وأهمّ ما تحتاج إليه الخطة المالية هو موازنة شفّافة وإدارة مالية للعجز وسببه المباشر هو أن المصروف يفوق الدخل. مزاريب الهدر كبيرة في لبنان كذلك الميزان التجاري يعاني عجزاً حيث إن قيمة الصادرات والواردات متفاوتة جدّاً، والخطر المحدق يكمن في طبع الليرة والسعي لتأمين الدولار».

أساس الأزمات وعمقها «أخلاقي»

من جهته، رأى الإقتصادي روي بدارو في حوار مع «نداء الوطن» أن «طابع الأزمات المتعدّدة التي يُواجهها البلد أساسها وعمقها أخلاقيان. هذه الأزمات الأخلاقية تمظهرت في الحياة السياسية وفي عدّة إدارات منها الحكومات السابقة والحالية، وإدارة مصرف لبنان السابقة، وإدارة لجنة المال والموازنة وغيرها من اللجان أيضاً. العمل على حلّ لا يمكن أن يبدأ إلا من خلال ابتكار وطن جديد لا يساهم في بنائه من هدمه، ذلك انطلاقاً من التجربة الحالية إذ شارك من يدّعون بأنهم البنّاؤون بهدم الهيكل الاقتصادي والثقافي والاجتماعي للبلد».

وبالعودة إلى قضية المصارف، المطلوب وفق بدارو هو التواضع «ما من جهة أو مواطن يريد إغلاق المصارف، لكن لا تستطيع النكران بأنه لا يمكنها تحمّل جزء من المسؤولية حيث ستخسر رساميلها ضمن إعادة هيكلة عادلة مجتمعياً، وتعيد الثقة على المديين المتوسط والطويل».