جدل حيال “بلومبرغ”: “المركزي” أنجز فروضها… فما جدواها بعد؟
فاجأ حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري اللبنانيين عموماً والأوساط المالية والمصرفية خصوصاً، بإصداره بياناً يدعو فيه “المصارف الراغبة وغير المشتركة لتاريخه بمنصّة “بلومبرغ” المبادرة للتواصل مع ممثلي الشركة للاشتراك والتحضير للمشاركة في تدريب موظفيهم لتمكينهم من العمل لاحقاً عليها”.
أتت المفاجأة بعدما ظن الجميع أن مشروع منصة “بلومبرغ” طوته الأحداث وتطوّرات السوق النقدية والمالية، بعد نجاح مصرف لبنان خلال الأشهر الأخيرة في السيطرة على “جبل” الكتلة النقدية والتضخم، ولجم التفلت في سعر صرف الدولار، والإبقاء عليه عند حدود 89 ألف ليرة. بيد أن إعادة مصرف لبنان إحياء المشروع وتذكير القطاع المصرفي والمالي به لم يأت من فراغ، بل من واجب وضرورة يحتّمان عليه الاستمرار بالمشروع ووضعه قيد الخدمة.
الواجب تأتى من إصرار منصوري على الوفاء بوعوده التي قطعها على الملأ، وأمام المسؤولين والمصرفيين وأهل المال والإعلام، للمحافظة على مصداقية الموقع الذي يشغله، وقرارات المجلس المركزي، والمؤسسة المؤتمن على سمعتها ودورها محلياً ودولياً، وخصوصاً لدى المنظمات والمؤسسات المالية والنقدية الدولية.
أما الضرورة، فتأتي من إصراره أيضاً على الالتزام بالقوانين والقرارات الحكومية كافة، بما فيها قرار مجلس الوزراء رقم 13 تاريخ 07 تموز 2023، ذات الصلة، وتطبيقها بحذافيرها، إمعاناً في فرض ثقافة الشفافية في تعامل مصرف لبنان مع الجمهور والحكومة والدولة من جهة، ولفرض الثقافة عينها على تعامل الدولة والحكومة من جهتهما بالمثل مع مصرف لبنان، بما يزيل الكثير من الشكوك والالتباسات التي لا تخدم المهمة المصيرية التي يتنكّبها المركزي راهناً في المحافظة على الاستقرار وسمعة المرجعية النقدية الأولى للبلاد.
وفيما يمكن وضع البيان في سياق تحفيز المصارف وحثّها على الاستعداد بشرياً وتقنياً للمشاركة في المنصّة، ما يشي بأن المشروع لا يزال قيد التحضير وفي مربعاته الأولى، يثار بين المعنيين جدل حول الحاجة مستقبلاً إليها في ظل الإجراءات التي اتخذها مصرف لبنان والتي عززت الاستقرار النقدي وسعر الصرف، وما يمكن أن تقدمه من خدمات وقيمة مضافة للاقتصاد والاستقرار النقدي، فيما يمكن تحقيق ذلك من خلال العودة إلى الأطر والآليات التي كانت سارية سابقاً أي سوق القطع والأسواق المالية، مع الأخذ في الاعتبار أنه يمكن لـ”بلومبرغ” إيجابيات ولكن أيضاً قد يكون دونها مخاطر.
وجهة النظر هذه، تعزز حجتها بأن الكثير من المعضلات الاقتصادية والسياسية والنقدية في لبنان “تأبّدت” ولم تجد طريقها الى الحلول الجذرية بسبب الجنوح لدى السلطة في لبنان تاريخياً للتسويات والاستثناءات، ومنها منصّة “صيرفة” التي تستعد لتوريث وليدتها منصّة “بلومبرغ”، في وقت يمكن فيه الخروج من ثقافة الاستثناءات إلى تطبيق ما هو موجود في قانون النقد والتسليف أو تعديل ما يلزم بما يتلاءم مع ضرورات المرحلة.
أصحاب هذه النظرية يعرفون جليّاً أن مصرف لبنان يحتاج إلى “المنصّة” مستقبلاً بعد تحرير سعر الصرف، لأسباب عدة يلخصها مصدر مصرفي بالآتي:
أولاً، وجود لبنان على منصة دولية بحجم “بلومبرغ”، يعيد له بعضاً من الثقة المفقودة عالمياً بالسوق اللبنانية.
ثانياً، يحتاج لبنان في أسرع ما يمكن إلى إبعاد شبح التصنيفات السلبية عن اقتصاده، لذا فوجوده على “بلومبرغ” يحميه نسبياً من ذلك، وقد يزيح عنه مستقبلاً قرارات عقابية أو احترازية دولية تزيد من عزلته.
ثالثاً، في ظل استمرار “المركزي” في سياسة تسديد رواتب وأجور القطاع العام والمتقاعدين بالدولار، وحاجته الشهرية لتأمين مصاريف الدولة المتزايدة، يحتاج مصرف لبنان إلى آليّة قانونية للعمل من خلالها على شراء الدولارات من السوق بشفافية ووضوح تقطع دابر الشكوك وترسي إدارة وحوكمة في عمليات الشراء والبيع.
رابعاً، بعد تحرير سعر الصرف كلياً، الذي صار قاب قوسين، بعد توقع إلغاء مفاعيل التعميم 151، ورفع السعر الرسمي للدولار من 15 ألفاً إلى 89500 ليرة، يصبح من الملحّ لدى مصرف لبنان وجود منصّة لضبط عمليات بيعه الدولار للرواتب والأجور، الذي قد يكون أحياناً سعر صرفه يقل قليلاً عن السعر الفعلي كما هو حاصل حالياً.
يبقى أن أعمار “الاستثناءات” في الحالات الاستثنائية مرهونة بعمر الأزمات والجهود والخطوات الكفيلة بحلها، ليعود “الاستثناء” إلى موقعه في التاريخ ويسود الساري من مفاعيل القوانين المطلوب تحديثها وتطويرها لتفي بالمطلوب والمأمول منها.
المعلوم أن مصرف لبنان لم يوقع حتى تاريخه العقد النهائي مع “بلومبرغ”، فيما تنتظر الأخيرة استكمال الإجراءات من المصارف لتركيب النظام الآلي لكي تكون جاهزة للاشتراك في المنصّة. ولكن في ظل الجدل القائم حالياً حيال جدوى “المنصة” في ظل الاستقرار المالي والنقدي يتريّث بعض المصارف في المباشرة بهذه الإجراءات بما حدا بمصرف لبنان الى إصدار بيان يحضّها على استكمال إجراءاتها للاشتراك في المنصّة لتمكينها من المشاركة في التدريب الذي ستقوم به “بلومبرغ” والذي سيمكنها لاحقاً من العمل ضمن شروط التعاميم ذات الصلة.
الى ذلك، وفيما أكدت مصادر متابعة أن صندوق النقد الدولي وفي ظل الأوضاع الأمنية المستجدة لم يعد يجد في إطلاق منصة “بلومبرغ” أولوية بالنسبة للبنان، أوضحت مصادر مقربة من منصوري لـ”النهار” أن الحديث عن أن صندوق النقد لا يعتبر “بلومبرغ” أولوية ليس دقيقاً، ولكنه يعتبر أنه في ظل الأوضاع في غزة والجنوب اللبناني وعدم الاستقرار الأمني يجب التريث في إطلاق منصة جديدة ك#منصة بلومبرغ، ولكن هذا لا يعني أنها ليست أولوية. أما في مقلب مصرف لبنان، فإنه يستكمل الإجراءات بغية انتساب المصارف التي لم تنتسب بعد الى المنصة، علماً بأن غالبية المصارف استكملت إجراءاتها للاشتراك في المنصة، فيما البيان الذي أصدره “المركزي” قبل يومين هو لتذكير المصارف بضرورة استكمال الإجراءات التحضيرية، طالباً من المصارف التجارية التي لم تقم بعد بتثبيت نظام “بلومبرغ” الآلي لتداول العملات الأجنبية الى القيام بذلك حتى تتمكن من التداول على منصة العملات عند إطلاقها.
وإذ أكدت مصادر الحاكم أن ثمة توافقاً بين المعنيّين جميعاً على عدم إمكانية إطلاق المنصة حالياً، بيد أن ثمة إجماعاً وتأكيداً على ضرورة انطلاق العمل بالمنصة فور انتهاء الحرب في غزة والجنوب، ليكون في مقدور المدربين من “بلومبرغ” المجيء الى لبنان، أوضحت أهمية “بلومبرغ” حيال الكتلة النقدية بالليرة، إذ فيما يعمل مصرف لبنان حالياً على ضبط الكتلة النقدية بشكل كامل حتى لا يكون ثمة مجال للمضاربين للإفادة من الليرات بغية ضرب سعر الصرف، تأتي إيجابية “بلومبرغ” لمراقبة تحرّك الليرات ووجهتها، إضافة الى مراقبة المضاربين على سعر الصرف. وتالياً فإنه مع وجود منصة “بلومبرغ” يمكن لمصرف لبنان أن يخفف من سيطرته على الليرات أكثر، كما أنه يراقب الدولارات التي تسجل على منصة بلومبرغ.
الباحث في شؤون الاقتصاد زياد ناصر الدين أكد “أن الإجراءات الإدارية والقانونية التي اتخذها منصوري لإعادة هيكلة عمل مصرف لبنان، توازياً مع الإجراءات التي أمّنت الاستقرار في سعر الصرف وإيقاف طبع المزيد العملة وسحب ما يقارب 40 ألف مليار لبنانية من السوق منعاً للمضاربة، وإضافة أكثر من 650 مليون دولار على الاحتياطي شكلت تطوراً فائق الأهمية”، مؤكداً أن “كل هذه الخطوات أتت تماهياً مع القرار السياسي في البلاد، لكن تبقى الحاجة اليوم الى إقرار الموازنة العامة بغية توحيد سعر الصرف”، معتبراً “أن خطوة توحيد سعر الصرف يجب أن تتحمّل مسؤوليتها الدولة لا المركزي، فمصرف لبنان أدّى واجبه بعد الخطوات الإصلاحية التي قام بها، وأهمها وقف تمويل الدولة”.
وفي السياق، يضيف ناصر الدين “ما كان من المفروض أن تحققه “بلومبرغ” من تقنيات استطاع المصرف المركزي تحقيقه، ولكن يبقى أمر أساسي يتعلق بنظرة الخارج الى لبنان، لأن هذه المنصة مطلب دولي بما سيساعد على إعادة الثقة الدولية بلبنان. فأهمية “بلومبرغ” أنها تسهم بإخراج لبنان من خانة شبهة تبييض الأموال، استباقاً لمناقشة وضع لبنان المالي والاقتصادي في حزيران المقبل، وتفادياً لوضع لبنان على اللائحة السوداء لتبييض الأموال.
وعلى عكس ما يروّجه البعض حيال عدم قدرة “المنصة” على ضبط المضاربات على سعر الصرف، يؤكد ناصر الدين أن “المنصة تمكّن المصرف المركزي من مراقبة السوق اللبنانية وتحديد حاجاتها من العمولات بما يجعله المتحكم بالسوق”. ولكن لضمان نجاح هذا السيناريو يشير ناصر الدين الى قاعدة ثلاثية تتمثل بإقرار موازنة الـ24، والمضيّ في الإصلاحات المالية والنقدية المتبعة، وتحضير المصارف لاعتماد نظام “بلومبرغ” الآلي لتكون مخوّلة العمل على المنصة”.
المصدر: النهار