تعود رواتب موظفي ومتقاعدي القطاع العام إلى الواجهة من جديد مع تعمّد الحكومة تغييبها بجلستيْن متتاليتيْن، رغم انتظار الموظفين هذا الأمر من أجل عودة الحياة إلى المؤسسات العامة، هذه الرواتب التي كادت أن تُفجّر الوضع بين الموظفين العاملين والمتقاعدين نسبة إلى الفوارق التي ستُحدثها بينهما، وتشي المعلومات أنّ السبب الرئيسي وراء عدم إقرارها هو عدم قدرة الدولة على تمويلها. فماذا يقول المتقاعدون والموظفون عن مصير هذه الرواتب؟ وما هو رأي الخبراء بالموضوع؟
القطبة المخفيّة
الوزير السابق فادي عبود يعتبر أن «القطبة المخفية تتمثل بعدم وجود المال، فعدد سكان لبنان يتراوح ما بين4 و5 ملايين نسمة، ومن غير المنطقي أن يكون لديه حوالى 350 ألف موظف يعملون في القطاع العام، فلا الإقتصاد المحلي ولا حتّى المنطق يتحمّلان هذا العدد الكبير من الموظفين الذين يجب تأمين رواتبهم الشهرية مع مصاريف أخرى. بالتالي، أي محاولة لزيادة الرواتب لن تكون مُجدية ولا صحيّة ما لم يتم تغيير كافة الإجراءات الإدارية والإصلاحات اللازمة».
الموظف المظلوم
ويتابع خلال حديثٍ مع صحيفة «نداء الوطن»: «صحيح أن موظفي القطاع العام مظلومين، لكن أكثر من يعاني الظلم هو الموظف الذي يعمل ويداوم. الأغلبية الساحقة وكما بات الجميع يعلم، لا تأتي إلى مراكز عملها ولا تعمل حتّى من المنزل. بناءً عليه، إذا أرادت السلطات المعنية زيادة رواتب القطاع العام مع الإبقاء على الـ350 ألف موظف أو متعاقد، فسيعاني البلد أكثر، هذا إن تمكن من تنفيذ هكذا قرار».
ويستغرب عبود من «عدم البدء بربط الإنتاجية بالإصلاح وتخفيض عدد الموظفين بالإستناد إلى الحاجة والكفاءة، مع امتداد ذلك على السلك العسكري، حيث يُقال إن هناك ما بين الـ70 والـ75 ألف عسكري، في حين أن دولاً أخرى أكبر من لبنان مثل بريطانيا العظمى يبلغ عدد جيشها اليوم حوالى الـ75 ألف جندي». كذلك، يستحضر عبود مثالاً آخر وهو وزارة الإقتصاد «التي لديها 350 مراقباً تقريباً، في المقابل لا تفرض مثلاً على السوبر ماركت وشركات السيارات وغيرها وضع أسعارها على الانترنت، وإذا تم تفعيل هذه الخدمة لن نعود بحاجة إلى هذا العدد من المراقبين».
أرقام مغلوطة
بإختصار، يشير إلى أن «الأرقام لدينا مغلوطة وغير مقبولة سواء كان ذلك في أي مؤسسة رسمية أو عسكرية والتي هي بحاجة إلى تصحيح ضروري. كلّ الإجراءات والقرارات والتطبيقات المعتمدة مبنية على التفكير والأساليب التي تعود إلى الستينات والسبعينات من القرن الماضي، فالبلدان المتطورة كلها تعتمد على الرقابة الالكترونية وليس الزيارات المدنية»، مضيفاً: «نسمع أحاديث كثيرة عن الإنتاجية وأهمية تحسينها، في حين أن شرطاً من الشروط الذي يجعل الإنتاجية أفضل هو تغيير الإجراءات الإدارية عبر تخفيض عدد الموظفين إلى الـ100 ألف تقريباً، وتلقائياً يصبح بإمكان الدولة دفع استحقاقات هؤلاء».
حتّى على الصعيد الصناعي، إن «لم يعتمد المصنع آخر التطورات والتحديثات أقلّها التحوّل إلى الإنتاج الأوتوماتيكي فمصيره الإغلاق الحتمي. إذاً، نحن بحاجة إلى الانتقال إلى إجراءات إدارية صنع عام 2024»»، وفق ما يصف عبود.
حقيقة التريث
وفي حين كان من المقرّر مناقشة الحوافز المالية للقطاع العام خلال جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، تبين من الدراسات والتدقيق أن الإعتراضات بشأن الهوة بين العسكريين والأمنيين والإدارة العامة جدية وبحاجة إلى مزيد من التدقيق، فارتأى المجتمعون التريث في طرح الموضوع وتأجيله إلى الجلسة المقبلة مع التأكيد على إعطاء الحوافز المالية بمفعول رجعي، ابتداءً من الأوّل من كانون الأول الفائت.
وعن تفاصيل هذا الموضوع، يكشف النائب السابق والعميد المتقاعد شامل روكز ما حصل قائلاً: «طالبنا بإعادة الدراسة، حيث أن الموظفين في الدولة إن كانوا عسكريين أو مدنيين موزعين على 5 فئات، ومن المفترض أن تكون كل الفئات هذه متساوية. أما الطريقة التي تم العمل على أساسها لإعطاء الحوافز المقدّمة لموظفي الإدارة العامة فأحدثت فروقات كبيرة بين فئات الإدارة العامة أو القطاع العام وبين الفئات العسكرية، لا سيما المتقاعدين»، لافتاً في السياق إلى أنه «لا يمكن القول إن المتقاعد غير منتج ولا يحق له أخذ حوافز، لا بل في الواقع هو قدم عمره لهذه المؤسسات. وما حصل في الدراسة السابقة انه تم فيها ظلم العسكريين».
بناءً على ما تقدّم يكشف روكز أن «هذه التطورات دفعت بنا إلى طلب مقابلة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي فاجتمعنا معه ومع اللجنة الوزارية في السراي الحكومي، وشرحنا لهم الموضوع واقتنعوا بوجهة نظرنا، وعليه يقومون بدراسة جديدة من أجل التوصل الى حلّ مقبول».
1800 مليار فقط
ويوضح لـ»نداء الوطن»، أن «الأموال التي يحق لهم التصرف بها تبلغ قيمتها حوالى الـ1800 مليار ليرة لبنانية، وهم يعملون على تقسيمها بشكل عادل ومتساو ما بين الفئات كلها لأن الجميع اليوم بحاجة إليها». ويلاحظ أن «العمل يتم على أساس «جوائز ترضية» وليس من باب إعطائهم حقوقهم، لكن يجب العمل وفق القانون من أجل إنجاز مسودة سلسلة الرتب والرواتب بشكل يصبح فيه الحد الأدنى للأجور 300 دولار وما فوق، كي تتمكن أي عائلة من تأمين أدنى مقومات العيش الضرورية».
لذلك، يشدّد روكز في ختام حديثه على ضرورة «إعادة النظر بكل ما هو مطروح من أجل تحقيق العدالة والمساواة من ناحية وحفظ حقوق وكرامات موظفي القطاع العام والعسكريين على حدّ سواء من ناحية أخرى، وذلك وفق إمكانيات الدولة».
الدراسات واضحة
وعلى صعيد الموظفين في كافة الوزارات والمؤسسات العامة فلديهم رأي آخر، حيث يُشدّد عضو الهيئة الإدارية لرابطة موظفي الإدارة العامة إبراهيم نحال على أن «القطبة المخفية هي أن الدولة اتخذت قراراً بعدم تصحيح أوضاع الموظفين ولا السماح للقطاع العام بالنهوض والوقوف على قدميه. فما نفع الدرس والبحث الإضافي في الملف؟ ما الهدف من الدراسات هذه كلّها؟»، مستغرباً من أن «الملفات واضحة ومقتضبة وليست بحاجة إلى كل هذا البحث، فسياسات المسؤولين الإقتصادية الريعية، السمسرات والصفقات والفوائد العالية على سندات الخزينة هي سبب ما وصل إليه الوضع الإقتصادي في البلد. كل الحكومات التي تعاقبت منذ الـ1992 حتى اليوم أوصلت البلد إلى الإنهيار الإقتصادي. ومع بدايات ظهور علامات الإنهيار في البلد والقطاع العام طالبنا الحكومة بتصحيح الرواتب والأجور، لكن مشروع المسؤولين يقضي بعدم نهوض القطاع العام وخروجه من أزماته، لا بل الخطة هي تدميره والذهاب به إلى الهاوية لبيعه وتخصيصه وفق إملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والدول المانحة».
رفضوا مطالبنا
ويشير إلى أن المسؤولين «بدأوا بالحوافز رغم أننا كنا نقاشنا معهم مطالبنا الواضحة والصريحة ووضعنا مع الحكومة المشاريع والخطط لتصحيح الرواتب والأجور وضم كل الزيادات إلى الراتب، وأن يكون سعر صيرفة 15000 ليرة لبنانية للموظف. وهذا أول طلب رفض، وتم البدء بدل ذلك بالحوافز واعتمدوا عبارة بدل الإنتاجية أو المساعدات، فمن قال لهم أننا متسولون؟ ما نريده هو حقنا للعيش بكرامة، لسنا المسؤولين عن انهيار البلد بل الدولة. فليتفضلوا ويصححوا وضعنا كما كان قبل الانهيار، حيث أن نسبة الخسارة في القيمة الشرائية للرواتب بلغت 98 في المئة في حين أن لدينا راتباً واحداً وإمكانية العيش والبقاء على قيد الحياة مرتبطة بهذا المدخول الوحيد».
بدل النقل والطبابة
ويتطرّق إلى موضوع بدل النقل «الذي يسمح لنا بالوصول إلى مراكز عملنا. الـ 450 ألف ليرة لبنانية غير كافية، وأبلغنا الحكومة أن الإستمرارية تتطلب تأمين ما بين الـ5 والـ10 ليترات بنزين تبعاً للمسافة، وحددنا الحاجة بالليتر تفادياً لأي تلاعب بالأسعار».
أما بالنسبة إلى الطبابة والإستشفاء، فيعتبر «أنه يجب أن تعود الأمور كما كانت في الجهات الضامنة قبل الإنهيار حين كان الموظف يدفع 10 في المئة من كلفة استشفائه ضمن سقف معيّن. أما اليوم فتفرض المستشفيات مبالغ بالدولار الفريش رغم انتسابنا للجهات الضامنة».
حجة الدولة
ويضيف: «تتحجج الدولة أيضاً بالمتقاعدين في حين أننا جميعاً مشروع متقاعدين. لم نعد نريد الـ85 في المئة من المعاش التقاعدي بل نريد العودة إلى الـ100 في المئة من أصل الراتب الذين كان معمولاً به قبل اقرار سلسلة الرتب والرواتب (القانون 717) الذي أقر عام 1997، مع إعادة إنشاء الصندوق التقاعدي المستقل»، سائلاً: «هل من المعقول أن يتقاضى المتقاعد تعويض صرف قيمته ما بين 10 و 22 دولاراً؟ كيف يمكن لأي إنسان أن يعيش بهكذا مبلغ؟ أين العدالة الاجتماعية؟»، مشيراً إلى أنه «عندما تعطى المساعدات الإنتاجية أو الدعم والبدل وغيرها تضاف إلى الراتب ليتم في المقابل أخذ ضرائب على الشطور العليا ونسبتها ضخمة، فهذه سرقة موصوفة لأن كل ليرة تدفع في الضرائب يفترض الاستفادة منها في المعاش التقاعدي، فلا يمكن إعطاء زيادة من جهة وأخذها من أخرى هذا عدا عن الإحتكارات والتلاعب بسعر صرف الدولار مع كل زيادة تقرّ».
الإيرادات موجودة
ويرى نحال أن «التحجج بعدم وجود إيرادات غير صحيح. المسؤولون كشفوا في أكثر من مناسبة أن كلفة رواتب القطاع العام 2000 مليار لبنانية، في حين أن إيرادات الدولة من مطار رفيق الحريري الدولي فقط 18 ألف مليار، أي بمدخول مبلغ صغير يمكن تغطية رواتب القطاع العام لـ6 أشهر، كذلك بعملية حسابية بسيطة: خسر الموظف حوالى 10 في المئة من راتبه بسبب احتساب سعر صيرفة على 89500 بدل 85500. للدولة إيرادات كثيرة تمكنها من الدفع للموظفين، فلديها وفر كثير ويمكنها زيادة مداخيلها، يمكن مثلاً تأمين وفر عبر خطوات بسيطة مثل إنشاء نظام ضريبي عادل مبني على 85 في المئة من الضرائب المباشرة والتصاعدية على الأرباح و15 في المئة ضرائب غير مباشرة تطال جميع المواطنين. وبدلاً من رفع بدل إخراج القيد والسجل العدلي فلتفرض الضرائب على المصارف وعلى الهندسات المالية، إذ قبل الانهيار وباعتراف المسؤولين كان هناك 4000 شخص يملكون أكبر عدد ممكن من الثروات وبعد الانهيار انخفض الرقم إلى الـ3000 لأن الثروات بيد عدد قليل من الناس ويجب فرض الضرائب التصاعدية على أرباح هؤلاء وأمثالهم».
التهديد بالتصعيد
وفي حال لم يدرج بند الرواتب على جدول أعمال الجلسة المقبلة لمجلس الوزراء، يؤكّد نحال أنه «سيكون لموظفي القطاع العام خطوات تصعيدية ضمن سقف القانون، من بينها إجبارنا على إمكانية العودة إلى الإضراب المستمر المفتوح. وقال: نعيد التذكير بأن يدنا دائماً ممدودة للتفاوض قبل اتخاذ أي خطوات، إلا أنه في الوقت نفسه نمتلك أسلحة الإضراب، التظاهرات والتحركات المطلبية، واتفاق مختلف المتضررين على موقف موحّد للحصول على حقوقنا من الدولة».