فيما تتجه الحكومة عبر موازنة 2024 التي تناقَش في المجلس النيابي، إلى رفع سعر الصرف الرسمي للدولار إلى 89500 ليرة، تسود حالة من التململ والخوف أوساط الهيئات الاقتصادية والنقابية والشعبية، من انعكاسات سلبية تطيح مكتسبات بعض الاستقرار الاجتماعي الذي تحقق في الآونة الأخيرة ولو نسبياً.
لا يجادل أحد اليوم بضرورة الإسراع في توحيد أسعار صرف الدولار، أو إلغاء الاستثناءات والدعم المغلّفين بشعبوية أدت إلى كسر ظهر الخزينة والمالية العامة. لكن التزام لبنان بتوجيهات ونصائح وربما بشروط صندوق النقد االدولي كليا أو جزئيا، يثير في أوساط خبراء المال والأعمال الشكوك في قدرة الشرائح الاجتماعية التي أصابها الإنهاك على تحمّل المزيد من ارتفاع قيمة الضرائب والرسوم والأعباء الإضافية التي سيرتّبها السير بهذا القرار.
ما بين ضرورة التماهي مع مطالب المؤسسات الدولية، والإلتزام بعلمية الأنظمة المالية الحديثة، وترسيخ مفهوم “الصرف من الموجود” فقط في حسابات الدولة، والتوقف النهائي عن الإتكال على سلفات المصرف المركزي والإستدانة من الخارج، وما بين عدم السماح للدولة بالغياب عن دورها ووظيفتها في رعاية مواطنيها وخصوصا ذوي الدخل المحدود، والطبقات الدنيا التي صارت تشكل ما نسبته 80% تقريبا من مجموع الشعب اللبناني، يفرض أكثر من سؤال نفسه: إلى أين تتجه الدولة في قراراتها المرتقبة؟ وما هي المفاعيل والترددات العكسية التي سينتجها رفع سعر الصرف إلى حدود تحريره شبه الكلّي؟ هل يدخل تعديل الدولار الجمركي في القرار؟ وماذا ستقدم الدولة في المقابل من عطاءات أو حوافز تساعد في حماية الطبقات الفقيرة من جهة، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة أو ما بقي منها صامداً حتى اليوم من جهة أخرى؟
تحرير أو تعويم سعر الصرف على نحو يتطابق مع سعر السوق الفعلي، يعزز واردات الدولة من جهة، لكنه يشهر سيف الإفلاس على ميزانيات القطاع المصرفي الذي تتخوف مصادره وتثير التحذيرات من مغبة الإقدام على هذه الخطوة قبل الشروع جديا في إقرار قانونَي “الكابيتال كونترول” وهيكلة المصارف، والإتفاق على حل نهائي وجذري لديون المصارف على الدولة و#مصرف لبنان، وديون مصرف لبنان على الدولة.
بَيد أن هذا التوجه يرضي المودعين، الذين ستعود ودائعهم إلى قيمتها الفعلية على الورق، في انتظار الحلول العتيدة للبدء بإعادتها “فريش” إليهم، وبالتقسيط الطويل الأجل كما هو متوقع.
في سياق آخر، تؤكد مصادر اقتصادية “أن الغالبية الساحقة من المواد الإستهلاكية والغذائية، والأدوية معفاة كليا أو جزئيا من الرسوم الجمركية، والضريبة على القيمة المضافة، وتاليا لا انعكاس دراماتيكياً على الأسعار، ولا مبرر محاسبياً لذلك”.
المصادر عينها ترفض أن تعود الدولة إلى سابق عهدها في الشعبوية الضريبية، وسياسة الإعفاءات “الإرضائية” والهدر بحجة “الدعم”، وهي “سياسات تحولت تدريجا الى عيوب في النظام المالي والضريبي، إبتلعت مداخيل الناس وواردات الدولة واحتياطات مصرف لبنان، وأوقعت البلاد في انهيار تاريخي”.
بعيداً عن دعم أدوية السرطان فقط، تجزم المصادر عينها بأن “رفع سعر الصرف ليس ترفاً تبتغيه الدولة بل محاولة لإرساء قاعدة “صرف الدولة على نفسها” من دون استنزاف المصرف المركزي بعد اليوم، الذي فعل خيراً حين أقفل “الحنفية”، أو اللجوء إلى الإستدانة من الأسواق المحلية والدولية التي صارت في خبر “اللاثقة” بالدولة اللبنانية وتخطّتها الأحداث”.
من وجهة نظر عميد كلية الاعمال في الجامعة الاميركية للتكنولوجيا الدكتور بيار الخوري “لا يمكن الحديث عن تعويم سعر صرف الليرة أو توحيده مقابل الدولار الاميركي من دون الأخذ في الاعتبار التراكمات التي حصلت خلال الاعوام الأربعة الماضية وتم فيها تشويه كامل للنظام السعري، بما أثّر بشكل فادح على القطاعات الاقتصادية، وعلى القيم من حيث احتسابها أو اختزانها”، معتبرا أن مسيرة البلاد نحو توحيد سعر الصرف، التي تنتظر كيف ستسعّر الليرة في موازنة 2024، تحتاج إلى العمل بشكل متلازم على طريقة تسعير الليرة.
اليوم، الليرة مستقرة عند هذا المستوى. لكن هذا الاستقرار برأي الخوري، “كان يمكن أن يعني انخفاضا كبيرا بسبب توقف مصرف لبنان عن الطبع، خصوصا لتمويل حاجات الحكومة، وبسبب تدخلاته المضبوطة لإعادة تعويم احتياطاته من العملات الأجنبية بالقدر الذي يحافظ فيه على مبدأ تنشيف الليرات من الأسواق، إذ ثمة حاجة الى اعادة تعويم الاحتياط، إلا ان الظروف الحربية في المنطقة منعت ذلك”.
يأخذ الخوري هذا المعطى في الاعتبار، ويفترض أنه سيستمر “بما يعني أن مصرف لبنان لن يموّل الحكومة عبره نقداً أو من احتياطاته الخاصة، وفي الوقت عينه سيحافظ على تدخلات مدروسة تضخ الليرات فقط بسبب حاجات الاقتصاد الوطني، لا بسبب حاجات الحكومة، التي عليها أن تتدبر أمرها ما بين الإيرادات والنفقات والمساعدات الخارجية، بل من أجل هدف إزاحة عبء الحكومة عن الاقتصاد”.
من البديهي أنه في ظل هذه المعطيات، يتحول توحيد سعر الصرف إلى مسألة حيوية من أجل إعادة إطلاق الاقتصاد الوطني، لكن السؤال الأساسي يبقى: هل توحيد سعر الصرف يعني تعويمه، بمعنى أن عناصر الطلب والعرض هي التي تحدده؟
حتى الآن، لا يبدو برأي الخوري أن هذا الامر وارد “خصوصا أن التوحيد السعري مرتبط تماما بالتسعير الذي ستعتمده الموازنة، أي أننا لا نزال بعقلية فرض سعر الصرف، رغم أن مصرف لبنان قد فعل تقريبا كل شيء ليخرج من مسؤولية التسعير”.
رغم أهمية التعويم، ثمة مَن يحذر من مخاطره على القطاعات الاقتصادية وودائع الناس. فبالنسبة الى لودائع، يؤدي تعويم سعر الصرف إلى احتفاظ المودعين بقيمة ودائعهم الحقيقية، لكن السؤال هو: كيف يمكن استرداد هذه الأموال في ظل ضعف القاعدة الرأسمالية للمصارف وللحكومة ولمصرف لبنان؟ يرى الخوري أنه يمكن تقسيط القيمة الحقيقية على المدى الطويل، لكنه يسأل عن حجم الودائع المؤهلة؟ ويقول: “إذا سحبنا من مجموع الودائع تلك القائمة على إعادة إصدار شيكات، وسحبنا الأموال غير النظيفة، تتحول الكتلة المقبولة المطلوب تقسيطها للمودعين إلى كتلة يتحملها الاقتصاد لمدة 5 إلى 7 سنوات”.
ماذا عن الضرائب وأثرها على معيشة المواطنين؟ صحيح أن معظم الأجور تحولت إلى الدولار، لكن مستوى الأجور اليوم في لبنان لا يزال منخفضا وكذلك الامر بالنسبة الى الناتج المحلي الذي لا يزال منخفضا. فإذا ارتفع تسعير الضرائب من 15 ألف ليرة إلى السعر الحالي في حدود 89 ألف ليرة، فهذا يعني برأي الخوري، “اقتطاعا كبيرا من رواتب الموظفين لمصلحة الموازنة. هذه طبعا إشكالية كبيرة ستنعكس على مستوى طلب القطاع العائلي في الاقتصاد، على قدرته على مواجهة المتطلبات الأساسية، في ظل اقتصاد يميل باستمرار نحو التضخم المستورد والمحلي بسبب ضعف القاعدة الإنتاجية”.
أموال التأمين أيضا تحت السؤال، إذ ثمة الكثير من أموال التأمين الدولارية المنقولة منذ ما قبل الازمة التي تُدفع بالليرة، أو التي يتم تراكمها بالليرة. فما هو مصيرها عند توحيد أو تحرير سعر الصرف؟ هل ستعامَل كما الإيداعات بالدولار؟ التفكير بهذه الطريقة يدفع الخوري إلى القول إنه “يجب إيجاد مخارج موضعية لكل قطاع بما يحمي حقوق المستثمرين والمودعين والموظفين”.
يبقى سؤال عن قدرة المواطن اللبناني على التعامل مع سعر صرف حر؟ يشير الخوري الى أن “ما حصل خلال العام الماضي، يدل على أن البلاد أظهرت مرونة في التعاطي مع الأسعار الحرة، بدليل أن الأجور ارتفعت سريعا. فالدولرة هي بحد ذاتها نوع من أنواع تحرير سعر الصرف، ولكن بطريقة مشوهة غير رسمية. فحتى لو ارتفع سعر الصرف لعناصر اقتصادية مختلفة بسبب التحرير، فإن ارتفاع الأجور الذي ظهر في الاقتصاد خلال العام الماضي كافٍ لإعادة التوازن إلى السوق”.
كل تجارب دول العالم التي مرت بأزمات اقتصادية عنيفة، خصوصا في أفريقيا واميركا اللاتينية والشرق الأوسط، أثبتت أن تحرير سعر الصرف هو دائما في مصلحة المواطن، على عكس السردية التي يحاول السياسيون والحكومات الاختباء خلفها. في حال تحرير السعر أو عدمه، ثمة فئات اجتماعية مكشوفة، لكن هذه الفئات هي “مسؤولية السياسات الاجتماعية للحكومة، وليس أسعار الصرف. فوضع عبء السياسات الاجتماعية على سعر الصرف، يعني فعليا أنه يتم إعادة توزيع الدخل من القادرين على الدفع، حتى لو كانوا موظفين صغارا، لأولئك المكشوفين اجتماعيا. وهذا معاكس للمبدأ الاجتماعي في توزيع العبء عبر تحويل ذلك العبء من الأغنياء إلى الفقراء”.
أما بالنسبة الى الخسائر المحتملة في ميزانيات الشركات والمؤسسات المالية، فهي مطروحة أساسا في المصارف وشركات التأمين، برأي الخوري. فالمصارف، “تمتلك الكثير من الخصوم والقليل من الأصول. وعندما يتم الحديث عن موضوع إعادة توزيع الخسائر، يجب ألّا تكون عبر “الهيركات” أي على حساب المودع. كل معادلة أخرى تقوم على إعادة توزيع الخسائر بين أصحاب المصارف والحكومة والمصرف المركزي هي معادلة قابلة للنقاش. القطاع التجاري عموما لا يملك هذا النوع من المشاكل، إذ إن معظم هذا القطاع سوّى مشاكله المالية خلال الأزمة، ويملك ميزانية شبه مدولرة منذ البدايات”.