إلى متى ستستمر المصارف باعتماد دولارها على سعر 15 ألف ليرة؟

تحكم اللبنانيين سلطاتٌ لامبالية وغير جدية إزاء الأزمات والمشاكل التي تطرأ، وليس كثيرا إتهامها بالسعي على الدوام لشراء الوقت إنقاذا لماء وجهها وإرباكاتها، هرباً من مواجهة الحقائق والحلول، إما خوفا من الإِقدام وإما إستجابة لمصالح سياسية.

تجرأ مصرف لبنان وقارع السوق والتضخم وخاض معركة تثبيت سعر الصرف وتوحيده، وأصدر التعاميم والقرارات الملزمة بذلك، وأعلن حاكمه بالإنابة وسيم منصوري أن سعر الصرف الوحيد المعتمد لديه هو السعر الموجود على المنصة الإلكترونية لمصرف لبنان، وهو حاليا 89.500 ليرة.

من هنا باتت الطريق سالكة أمام الدولة لإقرار موازنة لا أسعار صرف متعددة فيها من جهة، ومن جهة أخرى إصدار قرار حكومي أو من وزارة المال لتعديل سعر الصرف الرسمي من 15 ألفا إلى 89.500 ليرة وملاقاة مصرف لبنان في نهاية الطريق للتخلص كليا من الأسعار الوهمية التي فرضتها الظروف الإستثنائية، وخصوصا سعر الدولار المصرفي. إلا أن الحكومة وبتوافق سياسي برلماني ضمني إرتأت عكس ذلك، وفضلت التريث والإنتظار ورمي الكرة في ملعب مصرف لبنان والمصارف التي تؤكد مصادرها أنها تنتظر القرار بتعديل سعر صرف الدولار المصرفي، “ولا يهم من اي جهة كانت (الحكومة أو مصرف لبنان)، وحتى ذلك الوقت سيبقى سعر الـ 15 ألف ليرة هو المعتمد”.

تارة يسمع اللبنانيون من مسؤولين حكوميين أن تعديل سعر الدولار المصرفي هو مسؤولية “المركزي” وليس للحكومة أو وزارة المال شأن بذلك، فيما مصرف لبنان والمصارف تعتبر ذلك مسؤولية الدولة. فمن المسؤول إذاً؟

في ايلول من العام 2022 أعلن وزير المال في حكومة تصريف الاعمال يوسف الخليل، في حديث الى “رويترز”، ان “مصرف لبنان سيستخدم سعرَ صرف رسمياً مقداره 15 الف ليرة للدولار بدلا من 1507 ليرات” اعتبارا من نهاية تشرين الاول. ومن ثم تبعه قرار وسيط لحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة رقمه 12526، قضى بتعديل القرار الاساسي رقم 13221 تاریخ 21/4/2020 وفيه: “مع الاحتفاظ بمفهوم القرار الاساسي رقم 13217 تاريخ 9/4/2020، وفي حال طلب أي عميل اجراء اي سحوبات أو عمليات صندوق نقداً من الحسابات أو من المستحقات العائدة له بالدولار الاميركي او بغيره من العملات الاجنبية، على المصارف العاملة في لبنان، شرط موافقة العميل المعني، ان تقوم بتسديد ما يوازي قيمتها ب#الليرة اللبنانية وفقاً لسعر 15 الف ليرة لبنانية للدولار الاميركي الواحد وذلك ضمن سقف 1600 دولار للحساب الواحد شهريا”.

يبدو واضحا أن تعديل سعر الدولار المصرفي جاء بناء على اتفاق غير معلن بين وزارة المال ومصرف لبنان، علما أن وزارة المال أعلنت ذلك بشكل واضح في بيان لها جاء فيه: “بعدما أقر مجلس النواب الموازنة العامة للعام 2022، حيث اعتُمد سعر صرف 15000 ل.ل. مقابل كل دولار أميركي، وبعدما بات من الملحّ تصحيح تداعيات التدهور الحاد في سعر الصرف وتعدّديته على المالية العامة، وذلك تقليصاً للعجز وتأميناً للإستقرار المالي، وبما أن السير بخطّة التعافي المالي والنقدي والنهوض بالإقتصاد يتطلب توحيد سعر الصرف، لذا، أصبح وقف العمل بسعر صرف الدولار الأميركي على أساس 1507 ل.ل. إجراء تصحيحياً لا بدّ منه. وعليه، وكخطوة أولى باتجاه توحيد سعر الصرف تدريجا، تمّ الإتّفاق بين وزارة المال والمصرف المركزي على اعتماد سعر 15 الف ليرة مقابل كل دولار اميركي، عملاً بأحكام المادتين 75 و83 من قانون النقد والتسليف، كما وسائر النصوص التنظيمية والتطبيقية الصادرة عن مصرف لبنان(…)”.

إذاً، يبدو واضحا ان الدولار المصرفي تكوّن بعد الأزمة نتيجة الاحتجاز القسري للودائع في المصارف، وتسعيره كان بخلاف القانون والدستور، لكن “الغاية بررت الوسيلة” وقتذاك، فما هو المبرر اليوم لعدم الغاء التسعير المجحف بحقه وإعادة تقويمه على سعر السوق المعتمد على المنصة الإلكترونية، وخصوصا بعد صدور التعميم 166 الذي سمح للمودعين بسحب 150 دولارا نقدا شهريا؟

يتفق معظم القانونيين على عدم وجود دور للموازنة في تسعير الدولار المصرفي، وهو ما أكده أكثر من خبير مالي ودستوري، اضافة إلى أن “الـتسعير” الذي اعتُمد يخالف مبدأ حرية السوق وليبرالية الاقتصاد اللبناني، وتاليا لا جواز في بقاء “الإستثناء” وتثبيته بعدما خرج الوضع النقدي من غيبوبته وبات تحت المراقبة والسيطرة النسبية.

أكد مصرف لبنان أكثر من مرة أن لا دور له في تعديل سعر صرف الدولار المصرفي، مطالبا الدولة ووزارة المال بتحمل مسؤوليتهما تجاه المودعين، فيما المصارف لم تمانع في اعتماد سعر المنصة الإلكترونية (89.500 ليرة)، شرط أن يقبل “المركزي” تزويدها بالسيولة اللازمة.
ما بين المصارف غير الممانعة، ومصرف لبنان غير الممانع أيضا، ولكن المتخوف بقوة من انفلاش السيولة بالليرة وعودة نمو التضخم وتفلّت سعر صرف الدولار، وما بين الدولة التي لا تزال تعمل بموجب ثقافة شراء الوقت، يخسر المودعون المزيد مما بقي من ودائعهم، ويخسر لبنان صدقيته أمام المؤسسات الدولية التي تنتظر من دولته الإيفاء بوعودها الخروج كليا من عشوائية تعدد أسعار الصرف وإيجاد حلول عادلة ومعقولة ومستدامة للودائع.

ووفق مصادر اقتصادية، فإن “الإتكالية الحكومية على مصرف لبنان غدت من الماضي، وما عاد لدى الدولة اللبنانية إلا التحلي بالجرأة على صناعة الحل، إما بإصدار الحكومة قرارا يوحد السعر الرسمي وسعر الدولار المصرفي مع سعر منصة مصرف لبنان، وإما المسارعة إلى إصدار قانون معجل بذلك. وفي حال تعذر الاتفاق الحكومي البرلماني على ذلك، يمكن للحكومة إذذاك ان تتبنى، بالتوافق مع مصرف لبنان والمصارف، إقتراحا يدور حول منح المودعين حق الإفادة من ودائعهم على سعر 89.500 ليرة ضمن سقف مقبول، شرط أن يتم ذلك من خلال الدفع بالبطاقة المصرفية فقط، إتقاء لشرّ التضخم وخطره على سعر الصرف، وهو الهاجس الأكبر لدى حاكمية مصرف لبنان بالإنابة ومعظم اللبنانيين حاليا”.

وفيما عُلم أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يتريث في اتخاذ القرار في شأن تحديد سعر الدولار المصرفي وأوعز الى المصارف الاستمرار بالتعامل مع المودعين على سعر صرف 15 ألف ليرة الى حين استكمال التشاور مع المعنيين في الموضوع، تعتبر مصادر مطلعة ان الاختلاف بين سعر صرف الدولار في المصارف وسعر صرف بقية القطاعات يشكل ضرباً واضحاً لمبدأ المساواة، وان توحيد سعر الصرف يجب ان يصدر بقانون وفقا لقانون النقد والتسليف، فيما اعتماد سعر صرف معيّن يجب ان يستند الى دراسات جدوى واسباب اقتصادية موجبة، لا سيما ما تجريه الادارات المعنية كإدارات الاحصاء ولجنة المؤشر التي تراقب التضخم وغلاء المعيشة، فهذه الدراسات تساهم في تحديد تطور الاسعار وتقلباتها واسباب ارتفاعها، وكذلك تحديد الارقام لغلاء المعيشة، وتقديم المقترحات العلمية والتوصيات.

وتضيف: “حتى في حال التوجه لابقاء اسعار الصرف متعددة، فهذه التعددية يجب ان تحدد وتحصر بقانون يصدر بعد دراسات مالية تؤكد ان هذا التوجه يصب في الصالح العام ويؤثر ايجابا على الاقتصاد”.

وترى المصادر عينها ان من “يتكبد اعباء الفوارق بين سعر الصرف المعتمد في القطاع المصرفي وسعر الصرف المعتمد في بقية القطاعات كالقطاع التجاري والزراعة والصناعة هو المودع والمواطن المستهلك”.

وفي حال تم اعتماد سعر الدولار المصرفي على سعر الـ 89 الفا و500 ليرة يتخوف كثيرون من اتجاه مصرف لبنان الى طباعة الليرات بما سيؤدي حتما الى زيادة نسب التضخم. لكن استاذ العلوم السياسية والخبير الاقتصادي الدكتور سامي نادر لا يوافق على هذا الامر، إذ برأيه “ليس بالضرورة أن يطبع مصرف لبنان ليرات، خصوصا اذا ترافق ذلك مع اقرار “الكابيتال كونترول”. ولكن المشكلة تكمن في موضوع ميزانيات المصارف التي ستظهر عجزا كبيرا”. وشدد على ضرورة توحيد سعر الصرف بشكل منطقي بغية تحريره ليخضع لمنطق العرض والطلب كما هي الحال في الاقتصادات التي تعتمد النظام الحر. ونبه الى مسألة أخرى وهي أن “كل الودائع بالدولار تعتبر ديونا على المصارف، وتاليا فإن التأثير على المصارف سيتفاوت بحسب سعر الصرف، فسعر الـ 1500 يختلف حتما عن سعر الـ 89 الفا و500 ليرة، على اعتبار ان الموجبات عليها ستتضخم، وتاليا فإن توحيد سعر الصرف سيكون عقبة اساسية أمامها خصوصا حيال الخسائر التي ستظهرها ميزانياتها”.

ليس خافيا أن توحيد سعر الصرف هو مطلب أساسي من مطالب صندوق النقد الدولي، إضافة إلى قـانـون “الـكـابيتال كونترول” الذي يُعد من الشروط المتلازمة مع توحيد سعر الصرف، لا بل هو بند أساسي لهذا التوحيد. فالصندوق كما اصبح معروفا، وضع مسارا واضحا للبنان مقابل برنامج إنقاذي، يتضمن 4 نقاط من بينها توحيد سعر صرف الدولار واستعادة الملاءة المالية العامة وسـلامـة الـنـظـام الـمـالـي.

Exit mobile version