لم يكن مفاجئاً تصنيف وكالة “فيتش للتصنيفات الائتمانية” السلبي للبنان، ولوضع المالية العامة فيه، بعد تعثر الدولة عن سداد الديون بالعملات الأجنبية “يوروبوندز” منذ آذار 2020، وفشلها في إقرار القوانين والتشريعات الإصلاحية المطلوبة بقوة من صندوق النقد والمانحين.
فالتوقعات الدولية لا تختلف كثيراً عن التوقعات المحلية، وتلتقي وتتقاطع بمجملها على أن لبنان لم يعد دولة ثقة، وخسر مصداقيته الدولية التاريخية، التي بناها الآباء الأولون للاقتصاد والنقد والمصارف، وبات كجثة ميت في مشرحة، تخلى عنه أهله، لكنه ينتظر الاتفاق على نتائج التشريح.
الجديد الوحيد هو توقف “فيتش” عن “تغطية البلاد بالتحليلات المالية”، نظراً “إلى عدم وجود داتا رسمية” يُبنى عليها، فهل يكون قرارها هذا بداية نفض مؤسسات التصنيف الدولية أيديها من “وجع الرأس” اللبناني، ونفاد صبرها من اللامبالاة والفوضى التي تحكم عمل المؤسسات الرسمية في لبنان؟
أطلقت فيتش قرارها الظني بـ”عزل” لبنان من تقاريرها وتقييماتها، والخوف أن يحذو أترابها “ستاندرد أند بورز” و”موديز” حذوها، فيما هو لا حول له ولا قوة، أمام ما يجري في الكواليس السياسية، والصراعات فيه وعليه، وعلى وظيفته ودوره المالي والاقتصادي المستقبلي في الإقليم، وينتظر إقرار الآخرين مصير بقائه من عدمه على خريطة الدول الفاشلة.
لم تقدّم فيتش تقريراً افتصادياً، بل تقويماً سياسياً لحالة نظام أهلكه أهلوه باصطفافاتهم وانتماءاتهم إلى المحاور الكبرى، ومهّدت ربما السبل أمام مؤسسات مالية دولية، ومنظمات وجهات مانحة أو ذات صلة، لامتلاك حجة التوقف عن التعامل مع لبنان لقصور الحكم فيه عن التعاون من جهة، ونعي قدرته الاقتصادية والمالية على الاستجابة لمتطلبات المعايير الدولية من جهة أخرى.
فماذا يعني تقرير “فيتش”؟
أبقت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني على تصنيف لبنان عند مستوى تعثر مقيّد RD الذي يعني أن تخلفه عن سداد ديونه غير قابل للعلاج، وأرفقت تصنيفها بإعلان توقفها عن إصدار تصنيفات للبنان لعدم وجود معلومات كافية لإصدار تصنيفات.
وقالت الوكالة إن تأكيد معدل التخلف عن السداد بالعملة الأجنبية الطويل الأجل عند مستوى «RD» يعكس أن لبنان لا يزال متخلفاً عن سداد سنداته الحكومية الطويلة الأجل بالعملة الأجنبية، بعد فشل الدولة السيادية في دفع أصل سندات اليورو التي استحقت في 9 آذار 2020.
واعتبر التقرير أن عدم خدمة أرصدة الديون السيادية لمصرف لبنان يؤكد أن الحكومة لم تستأنف دفع الفوائد على حيازات مصرف لبنان من الأوراق المالية بالعملة المحلية الصادرة عن الحكومة، ولا تزال خدمة الديون بالعملة المحلية المستحقة لدائنين من القطاع الخاص قيد الخدمة، ولم تطلب السلطات إعادة هيكلة الديون بالعملة المحلية.
تقول فيتش إن الحكومة اللبنانية توقفت عن نشر الحسابات القومية والبيانات المالية، والحسابات القومية التي تنشرها الإدارة المركزية للإحصاء والبيانات المالية متاحة فقط حتى عام 2021، لذلك لن يكون لدى الوكالة معلومات كافية للحفاظ على التصنيفات، وبناءً على ذلك، لا تصنيفات مستقبلية.
فهل من الجديد اكتشاف “فيتش” أو غيرها مستقبلاً “بارود” فقدان الدولة اللبنانية ومؤسساتها المترهلة “قوة المعلومة” المتمثلة في الداتا الاقتصادية والمالية، أو الإحصاءات التي تنتج عنها، والدراسات التي تتوالد من رحمها، والتي تعتبر من أبسط قواعد الحكم الرشيد، ووعي مكامن الضعف والقوة في عمل الدول والمؤسسات الحديثة؟
الأكاديمي والخبير الاقتصادي د. بيار الخوري يوضح أن حالة “التوقف عن الدفع المقيدة” (Restricted Default) التي تصنّفها وكالة فيتش برمز (RD) تعني أن المُصنّف قد فشل في الوفاء ببعض التزاماته المالية لكنه لم يتوقف عن الدفع بشكل كامل لكل التزاماته. بعبارة أخرى، قد يكون الكيان تخلف عن دفع جزء من ديونه أو سنداته، لكنه لا يزال مستمراً في دفع بعض التزاماته الأخرى. مثال على ذلك، إن كان لدى الدولة عدة أنواع من الديون مثل السندات والقروض، وتوقفت عن دفع أحد أنواع السندات ولكنها لا تزال تدفع القروض والديون الأخرى، فإنها قد تُصنّف بـRD”.
هذا التصنيف برأيه “يعكس وضعاً مالياً حرجاً للمصنّف”. ويشير إلى “أن هناك احتمالاً كبيراً لتوقف كامل عن الدفع إن لم تتحسّن الأوضاع المالية”.
تصنيف لبنان الائتماني من قبل وكالة فيتش شهد تدهوراً ملحوظاً على مدار العقد الماضي، حيث خُفض تدريجاً وصولاً إلى تصنيف “التوقف عن الدفع المقيدة” (RD) في عام 2020. فتصنيف لبنان من فيتش تدرج خلال السنوات الأخيرة الى الخلف وفقاً لتراجع وضع المالية العامة والقدرة على استدامة خدمة الدين خصوصاً أن لبنان عشية الأزمة كانت لديه التزامات دولية عبر سندات اليوروبوندز تعادل 35% من الدين العام الإجمالي في لبنان.
في عام 2016 كان تصنيف لبنان في نطاق B، وقد خُفض مرات عدة، بسبب تزايد الضغوط المالية وارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. في آب 2019، خفضت فيتش تصنيف لبنان إلى CCC بسبب تزايد المخاطر على قدرة الحكومة على خدمة ديونها.
في آذار 2020، خفضت فيتش تصنيف لبنان إلى CC، ثم خفضته في الشهر عينه مجدداً إلى C نتيجة تفاقم الأوضاع المالية والاقتصادية. وفي وقت لاحق من العام عينه، خفضت فيتش تصنيف لبنان إلى RD بعد إعلان حكومة الرئيس حسان دياب تعليق دفع الديون السيادية لأول مرة في تاريخها. وفي عام 2022 أكدت فيتش تصنيف RD للبنان في تقاريرها، مشيرة إلى المشاكل الاقتصادية الكبيرة، بما في ذلك نقص احتياطيات العملات الأجنبية وتعدد أسعار الصرف وارتفاع التضخم.
أما وقد استنتجت “فيتش” أن التوقف عن التصنيف هو أفضل ما يمكن أن تعطيه للبنان، فإن ذلك وفق الخوري “يبقى نظرياً أفضل من تصنيف التوقف النهائي عن الدفع D”. فتصنيف “D” لدى وكالة فيتش يعني “تعثراً” (Default)، ويشير إلى أن المصنّف قد توقف عن سداد جميع أو جزء كبير من ديونه المستحقة. بعبارة أخرى، يُعدّ المصنف في حالة تعثر عندما يفشل في الوفاء بالتزاماته المالية بشكل كامل ودائم.
هذا التصنيف يُعدّ أدنى تصنيف ممكن لدى “فيتش” ويعكس حالة مالية حرجة، حيث يكون المصنّف غير قادر على تلبية متطلبات ديونه، ويستخدم هذا التصنيف عند حدوث تخلف فعلي عن الدفع، بما يعني أن المستثمرين يواجهون مخاطر عالية جداً بشأن استرداد أموالهم.
فهل يكون التوقف عن التصنيف أفضل من التعثر؟ نظرياً نعم، يقول الخوري، ولكن فعلياً هذه التصنيفات لم يعد لها أيّ قيمة فعلية بسبب تعطل نظام التمويل النظامي في لبنان بكافة أشكاله، وتحوّل سنداته الدولية إلى فئة الخردة (junk) في أسواق التداول الدولي.
“فيتش” اعتبرت أن نقص المعلومات الموثقة عن لبنان فضلاً عن تلكؤه في تنفيذ اتفاق المديرين مع صندوق النقد الدولي يقفان خلف وقف التصنيف. بمعنى آخر أعادت فيتش القول بصيغة احترافية المثل الشعبي: “فالج لا تعالج”.
ما المتوقع بعد إعلان “فيتش” وقف التصنيف؟ يؤكد خوري أن قرار وقف التصنيف واضح ولن يكون هناك تصنيفات أخرى ما دام لبنان لم ينجز أي إجراءات أو إصلاحات يمكن أن تعيده الى لائحة التصنيفات التي تصدر عن الوكالة الدولية، وإلا فإن موقف الوكالة من لبنان يمكن أن يستمر لعشر سنوات.
كتائب