منذ عام 2008، تلاحق الشكاوى واتهامات الفساد والتحرّش والتلاعب بالتقارير موظفاً في بلدية بيروت، من دون أن تحول دون إمساكه اليوم بخناق البلدية بكل ما فيها. متسلّحاً بـ«مهارة» قلّ نظيرها في التنقل بين المرجعيات السياسية، وبالتلطي وراء الطائفة وأحزابها، وفي القفز من أقصى اليمين إلى يسار «الثوار»، عرف مارك كرم كيف يحافظ على موقعه في وجه تقلّب العهود. من مسؤول قواتي في بلدته غلبون إلى «ثوري» بقيادة النائبة بولا يعقوبيان، وما بينهما، لم يعدم كرم وسيلة للعثور على مرجعية يتظلل بها، وآخرها غطاء مباشر من محافظ بيروت القاضي مروان عبود. والمفارقة أن الأخير يُطلق على كرم لقب «اللص» تحبّباً، إلا أنّه يعتبره «موظفاً نشيطاً»، فهو في أي ساعة يطلبه يجده!
نشاط كرم «طوّع» عبّود الذي يشكو من كسل موظفي البلديّة. وبعدما عاقبه المحافظون السابقون، سخّر له المحافظ الحالي سلطة وتقديمات وسيّارة وهاتفاً ومكتباً خلافاً للقانون، وصولاً إلى توقيع السلف متى رغب في ذلك!
مسيرة كرم الذي يتولى منصب رئيس الدائرة الإداريّة في مصلحة النظافة حافلة بالملفات منذ أولى الشكاوى التي قُدّمت في حقه عام 2008 وصولاً إلى الكتاب الأخير الذي رفعه رئيسه، مدير مصلحة النظافة بالتكليف ذكي ذبيان، إلى المحافظ حول تجاوزاته الإدارية. غير أن هذا كله لم يغيّر تصنيفه إلى «موظف غير مدلّل» لدى المعنيين، بل زاده تسلّطاً على شؤون البلديّة التي أصبحت مملكة خاضعة لإمرته.
هذا ما يجمع عليه كلّ المعنيين، من مسؤولين في أحزابٍ سياسيّة إلى نواب المدينة. جميعهم يقرّون بأنّ المحافظ «غير متورّط»، لكن «سمعته ونظافة كفّه النظيف لا تستويان مع تجاوزاتٍ مماثلة». كثر راجعوا محافظ بيروت في شأنه من دون جدوى، ولم يقتنعوا بالتبريرات التي ساقها عبود لعدم اتخاذ أي إجراء بحق كرم، متذرّعاً مرّة بـ«نشاطه»، ومرّةً أخرى بـ«خشيته من استدراج تحريض الأحزاب المسيحية ضده في حال أقدم على أي إجراء»، ومرّات بغطاء سياسي يحظى به كرم من مرجعيات كبيرة وصولاً إلى البطريركيّة المارونيّة، رغم أن النواب الذين راجعوا البطريرك بشارة الراعي في الأمر نقلوا عنه عدم علمه بالأمر. أما أخطر الذرائع وأغربها، فكان تخوّف عبّود من أنّ إزاحة كرم عن منصبه ستؤدي إلى وقف العمل بمكب الجديدة لأنّ «علاقاته مع المعنيين في المكب تسيّر أعمال البلدية فيه». والخلاصة أن «قبع» كرم من منصبه يعني إغراق بيروت بالنفايات!
من العلاقات إلى النظافة
نجح كرم في «ضبضبة» ملفّاته رغم «تاريخ طويل» من الشكاوى والاتهامات. عندما انتقل من دائرة العلاقات العامّة في البلدية إلى دائرة اللوازم واجه شكاوى اتهمته بارتكابه تجاوزات إداريّة، وبالتحرّش، وفي أيار 2013، قرّر المحافظ السابق ناصيف قالوش «وقفه عن العمل لمدّة شهر من دون راتب تأديبياً، وذلك لقيامه بعمل يحطّ من كرامة الوظيفة من خلال تصرّفه بطريقة غير لائقة ولا تأتلف مع أصول السلوك الإداري تجاه زميلاته في دائرة اللوازم، إضافة إلى إلزامه بعض العاملين بدفع مبلغ من تعويض الأعمال الإدارية على مدى شهرين، وعدم تلبية طلب المفتش المختص بالحضور إلى مكتبه».
غادر كرم دائرة اللوازم فتمّ التعاقد معه كرئيس لمصلحة المسالخ، قبل أن يكتشف رئيس الدائرة في حينه وجود تلاعب في صلاحية الذبائح، ما دفع المحافظ السابق زياد شبيب إلى توقيفه عن العمل عام 2017 لمدّة 6 أشهر من دون راتب، وأحاله إلى الهيئة العُليا للتأديب لامتناعه عن تسجيل الغنم التالف في الجداول الأسبوعية والشهرية لحركة المواشي.
«احتلال» مكتب وبريد وملفّات!
بـ«قدرة قادر»، انتقل كرم إلى مصلحة النظافة رئيساً للدائرة الإداريّة، وتردّد أن اتصالاً ورد إلى شبيب يومها من القصر الجمهوري في هذا الشأن! في هذه الدائرة، رسّخ كرم «إمبراطوريته» إلى حد تمنّعه عن تسليم المكتب إلى رئيس الدائرة الذي كُلّف عام 2020، ذكي ذبيان، و«احتل» مكتب الأخير في الكرنتينا، مصراً على عدم «الاعتراف» به رئيساً له، مكتفياً بمخاطبته في المراسلات الرسمية باسمه أو بـ«مُسيّر أعمال» المصلحة، رغم أنّ مصلحة النظافة خُصّصت وحدها للطائفة الدرزية وفق التوزيع الطائفي، من بين المصالح الـ9 في البلديّة. واستخدم كرم نفوذه في البلدية لمنع ذبيان من التواصل مع الموظفين وعدم تسليمه الملفات والبريد الوارد! وهو ما دفع الأخير إلى رفع كتاب إلى المحافظ في آذار 2020 يشرح فيه عدم تسلّمه مكتبه في الكرنتينا والبريد الوارد «بسبب رفض رئيس الدائرة الإدارية ترك المكتب والعودة إلى مكتبه الذي تضرّر بفعل انفجار المرفأ»، مذكّراً بسلفة حصل عليها كرم لترميم مكتبه، ولافتاً إلى أن تصرفات الأخير «فيها الكثير من التجاوزات الإدارية والمخالفات القانونية والقرار الإداري بتكليف رئيس».
وشكا ذبيان من أن كرم «هدّد الموظفين العاملين في مصلحة النظافة في حال تعاونوا مع رئيس المصلحة»، وتهجّم على الأخير «بألفاظ نابية في وجود عدد كبير من الموظفين والملاحقين الصحيين».
وفي كتابٍ مماثل رفعه ذبيان إلى المحافظ بعد أشهر، أشار إلى أن «رئيس الدائرة الإدارية رفض إجراء جردة لمستودعات مصلحة النظافة لتقييم طريقة صرف هذه الموجودات»، طالباً «وضع حد لهذه التجاوزات الإدارية والمخالفات القانونية وتقيّده بحدود صلاحياته المنصوص عليها في القرار الذي ينظّم مصلحة النظافة العامّة في البلدية»، وحثّه على «تسليم المكتب وكل الملفات المتعلقة بمديرية المصلحة». وحتّى اليوم، لا يزال ذبيان ممنوعاً من دخول مكتبه، ويداوم في المبنى البلدي.
كذلك يشكو ذبيان من تجاوز كرم لصلاحيات الأول بفضّ أسعار المناقصات والتلزيم من دون العودة إليه، مكتفياً بموافقة مباشرة من المحافظ! ولذلك، رفع ذبيان كتاباً إلى عبود عام 2020 مُطالباً بـ«وضع حد للتجاوزات الإدارية المتكررة» لكرم «بعدما قام بفضّ عروض الأسعار متخطياً صلاحياته، ومخاطباً المحافظ مباشرةً، متجاوزاً الأطر القانونية والتسلسل الإداري المتّبع». كما رفع كتاباً مماثلاً إلى مدير مصلحة التفتيش «لمنع التعديات والمخالفات من رئيس الدائرة الإدارية»، وآخر إلى لجنة استقصاء الأسعار، مشيراً إلى أن «فضّ العروض جرى من دون التقيّد بأحكام قانون المحاسبة العمومية».
بعد الأزمة المالية، أوقفت البلدية العمل بالمناقصات ولجأت إلى مبدأ إعطاء السلف لتنفيذ المهام التي كانت توكل سابقاً إلى المتعهدين. وسرعان ما وجد كرم طريقاً إلى السلف، فلجأ إليها لتغطية كلفة التنظيفات من دون المرور برئيس المصلحة مكتفياً بتوقيع المحافظ وموافقته. واستحصل كرم على سلفة بقيمة 12 مليون ليرة لإصلاح آليته التابعة للمصلحة في أيّار 2023، إضافةً إلى سلف للتنظيف بمعدل خمسين مليون ليرة شهرياً، فيما تخطّى بعض الاعتمادات أحياناً الـ 200 مليون ليرة.
«خوّات» وتجاوزات
ويتهم موظفون في البلدية كرم بانتحال صفة زملائه من رؤساء المصالح في البلدية والقيام بـ«كبسات» على المحالّ التجاريّة لفرض «خوات» تحت طائلة تنظيم محاضر بحقهم، مرة بسبب إعلانٍ مخالف للأصول، أو بسبب «آرمات» مخالفة، ومرّة بسبب توظيف عمال لا يحملون إقامات شرعية، علماً أنّ هذه التّجاوزات تقع ضمن صلاحيات مصالح أخرى (كمصلحة الهندسة أو الصحة). كما يشكو بعض أصحاب المطاعم من أن الفاتورة الشهريّة لكرم وضيوفه على طاولاتهم باتت تتعدّى كلفة محاضر الضبط التي يمكن أن تسطّرها البلدية في حقهم! وتؤكد مصادر الموظفين أن كرم عرض على أحد أصحاب المطاعم في منطقة عين المريسة تنظيف عقار تملكه البلدية محاذٍ للمطعم وزراعته مقابل 10 آلاف دولار. وتزخر جعبة النواب والمسؤولين والموظفين في البلدية بكثير من الحكايات المشابهة، من ضمنها ما أثارته «الأخبار» سابقاً عن فرضه مبالغَ مالية على أصحاب المحالّ التجارية في العاصمة ممن يرغبون في إبعاد حاويات النفايات عن محالّهم، و«ضريبة يومية» على العمال السوريين الذين يعملون «نكّيشة» في مكب الجديدة!
شكاوى تحرّش!
نحو 20 موظفة في بلدية بيروت رفعن شكاوى شفهية وخطية بعضها يعود إلى عام 2008، تتهم مارك كرم بالتحرّش إلى كل من محافظ بيروت مروان عبود، والمحافظين السابقين زياد شبيب وناصيف قالوش، وإلى النيابة العامّة التمييزيّة وهيئة التفتيش المركزي، من بينها شكاوى لثلاث موظفات رفعنها إلى عبود في آب 2020، تتحدّث عن تحرّش جسدي ولفظي وتهديدات. كذلك رُفعت شكاوى ضد كرم إلى النيابة العامة الاستئنافية في بيروت بجرم «التحرش والتشهير والتهديد». في حين تركت الملحقات الصحيات التابعات لمصلحة النظافة أخيراً مكاتبهن في الكرنتينا وبدأن يداومن في مبنى البلدية رغم عدم وجود مكاتب مخصّصة لهن، بسبب تعرضهن لمضايقات.
مخالفات لصالح «رامكو»؟
خلافاً للأصول، يحضر رئيس الدائرة الإدارية لمصلحة النظافة مارك كرم الاجتماعات بين محافظ بيروت القاضي مروان عبود والقائمين على شركة «رامكو» الموكلة بمهمّة كنس نفايات العاصمة ورفعها ونقلها، والاستشاري المكلّف بمتابعة ملف النفايات. ويتهم موظفون كرم بالتلاعب بتقارير جودة أعمال «رامكو» التي تُرفع إلى المحافظ. كما أن ملخصات أعمال «رامكو» وعقودها مع البلدية التي تصل إلى البريد الخاص بمصلحة النّظافة، تنتهي لدى كرم الذي يمتنع عن تسليم البريد الوارد إلى رئيس المصلحة المكلّف منذ أكثر من 4 سنوات ذكي ذبيان، علماً أنّ علاقات قوية تربط كرم ببعض المديرين في «رامكو»، أدّت إلى مخالفات في العقد الموقّع مع البلدية لجهة نقل نفايات المستشفيات والمراكز التجارية.
تحقيق بلا نتيجة
كبقية التحقيقات التي فُتحت داخل المجلس البلدي في بيروت من دون الوصول إلى أي نتيجة، «نام» التحقيق الذي أعلنت عنه دائرة العلاقات العامّة في بلدية العاصمة، في آذار 2023، مع رئيس الدائرة الإدارية في مصلحة النظافة، مارك كرم، إثر تناقل مواقع التواصل الاجتماعي كلاماً له يؤكد ضرورة «تقسيم بلدية بيروت»، ويستهزئ فيه من التوقيت الهجري!
لينا فخر الدين-الاخبار