معطيات جديدة تُكشف..مُلاحظات هامة واستنتاجات بعد انتقام “الحزب”!

حصلت الضربة الإنتقامية التي التزم بها حزب الله إثر قيام إسرائيل بعملية اغتيال لأرفع مسؤول عسكري فيه فؤاد شكر في حارة حريك أو المنطقة الأمنية الصافية في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبعيدا من المواقف الإعلامية فلا بد أن يكون كل فريق قد ذهب لإجراء تقييمه العسكري لكل ما حصل، ووضع قراءته واستنتاجاته.

وبدورها الأوساط الإعلامية والسياسية المراقبة إنشغلت في طرح أسئلتها وإجراء مقاربتها لما حصل خصوصا وأن الرد المتوقع كان قد شغل الأوساط الدولية كافة طوال الأسابيع الثلاثة الماضية نظرا لخطورة نتائجه وارتداداته ليس فقط على الساحة اللبنانية بل أيضا على رقعة الشرق الأوسط بكاملها.

وثمة ملاحظات سريعة لا بد من التوقف عندها، اولها الكلام الذي أطلقه القائد العام للحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي مساء السبت أي قيل ساعات معدودة من رد حزب الله وفي معرض رده على مسألة الرد على إسرائيل بأن هنالك “أخبارا جيدة قريبا”، وفق ما نقلته وكالة الأنباء الرسمية الإيرانية. وغالب الظن أن سلامي كان على معرفة مسبقة بما سيقوم به حزب الله بعد ساعات معدودة. لكن السؤال لا يكمن هنا بل في الزيارة المفاجئة التي قام بها أرفع مسؤول عسكري أميركي ،أي رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيوش الأميركية الجنرال براون الى المنطقة. واللافت ليس فقط التزامن بين زيارته المفاجئة وضربة حزب الله، بل أيضا لأهداف مهمته والتي تم إدراجها تحت عنوان “لتجنب نزاع أوسع نطاقا في الشرق الأوسط”. وفي السياق نفسه وبعد انتهاء العملية كان لافتا ما نقلته شبكة “سي بي أس” الأميركية عن مسؤول أميركي من أن الضربات التي نفذها حزب الله “لم تكن مفاجئة لإدارة بايدن”.

وواكب اشتعال المواجهة فجر أمس الأحد رد فعل أميركي “غير مضطرب”، فلم تتدخل الترسانة العسكرية الأميركية في عملية صد هجوم حزب الله على إسرائيل كما حصل مع الهجوم الإيراني في 13 نيسان الماضي حين تدخلت القطع البحرية الأميركية والطائرات الحربية مباشرة وإلى جانبها دول أخرى. لا بل على العكس فلقد بقي رد الفعل العسكري الأميركي هادئا الى حد بعيد على رغم من مهمة الدفاع عن إسرائيل والموكولة للقطع البحرية العسكرية الأميركية. ومع الإشارة هنا الى أن حزب الله لم يستخدم الصواريخ النوعية بل صواريخ “الكاتيوشا” والمسيرات.

والملاحظة الثانية كانت في التحرك الإسرائيلي السريع والذي تم وضعه تحت عنوان “الضربات الإستباقية”. وفي وقت كثرت التحليلات وذهب بعضها الى القول أن إسرائيل لم تكن غافلة عن تحضيرات الضربة فإن التفسير اللبناني كان أن التحرك الإسرائيلي سببه ملاحظة إسرائيل عبر رقابتها الجوية المتواصلة أن هنالك حركة عسكرية غيرعادية لحزب الله، وهو ما دفعها الى التحرك عسكريا قبل نصف ساعة من بدء هجوم حزب الله الإنتقامي ولو من دون أن يؤدي ذلك الى إجهاضه.

والملاحظة الثالثة أن هذا التصعيد العنيف والمفاجىء بقي مضبوطا ضمن حدود مرسومة بوضوح. فالعمق الجغرافي لمنطقة العمليات طاول ضواحي تل أبيب، فيما بقيت تل أبيب نفسها خارج نطاق الإستهداف بخلاف المعادلة التي كانت طرحت سابقا. وإلتزمت الطائرات الإسرائيلية بالمنطقة القريبة من الحدود، ولم تطاول اعتداءاتها العمق اللبناني على رغم من أنها كانت قد فعلت ذلك مرات عدة خلال أشهر الحرب.

أما الملاحظة الرابعة فهي بتركيز الإستهدافات على مراكز عسكرية، حيث تردد أن حزب الله استهدف 11 ثكنة عسكرية للجيش الإسرائيلي، وفي المقابل انحصرت الهجمات الإسرائيلية على مناطق غير مأهولة. والنقطة الحساسة هنا أنه لم يسجل سقوط أي قتيل مدني إسرائيلي ولو عن طريق الخطأ، وهو ما كان يحذر منه نتنياهو بأنه سيشكل الدافع للذهاب الى الحرب المفتوحة.

والملاحظة الخامسة أن التدابير الإسرائيلية الداخلية وإغلاق مطار بن غوريون لم يستمر سوى لساعات معدودة، إذ حالما انتهت العملية تم الإعلان عن إعادة فتحه. وتزامن ذلك مع إعلان متبادل لكل من إسرائيل وحزب الله عن انتهاء الضربة وعدم الإستمرار في التصعيد. مع الإشارة هنا الى الوجود المباشر ليس فقط لوزير الدفاع الإسرائيلي بل لرئيس الحكومة أيضا في غرفة العمليات، وهو ما فسر بأنه لمتابعة أدق التفاصيل إنسحاما مع المناخ السياسي الكبير. وكان معبرا ما نقله موقع “إسرائيل هيوم” عن مسؤولين إسرائيليين من أنه إذا كان حزب الله راضيا (أي مكتفيا) عن رده فإن إسرائيل لن توسع الحملة، وسيمكن إغلاق ملف إغتيال فؤاد شكر.

أما الإستنتاج الأول والذي يمكن الخروج به بأن لا رغبة فعلية لأي طرف للذهاب الى الحرب الشاملة والمفتوحة، على رغم من التهديدات الكبيرة والمتلاحقة والتي كانت ضجت بها الوسائل الإعلامية. وقد لا يكون السبب الوحيد هو عدم وجود رغبة ذاتية لدى الأطراف المعنية مباشرة، بل خصوصا لعدم وجود ضوء أخضر أو حتى أصفر دولي في هذا الإتجاه. فلا الإدارة الديموقراطية في واشنطن الغارقة في انتخابات صعبة وشائكة والتي بدأ عدها العكسي في وارد الغرق أكثر في رمال الشرق الأوسط المتحركة، ولا أيضا روسيا التي تخشى على مصالحها في سوريا في هذا الوارد، وهو ما أبلغته صراحة الى طهران. وهي إشارة تبعث على شيء من الإطمئنان، ولو أنها ما تزال بعيدة عن إغلاق ملف الحرب القائمة في انتظار حصول تسوية سياسية ما تزال ظروفها السياسية الكبرى غير مؤمنة. أي أن “الحرب المضبوطة” في جنوب لبنان ستبقى قائمة حتى إشعار آخر قد يمتد الى مطلع السنة المقبلة موعد دخول رئيس أميركي جديد الى البيت الأبيض. وقد يكون وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالنت عبر على طريقته عن ذلك حين صرح بعد انتهاء الضربة بأن الحرب على حزب الله “ستحصل في مرحلة بعيدة وليس الآن”.

والإستنتاج الثاني يتعلق باستمرار الترابط المتين بين حرب غزة ولبنان، والذي أصبح أقوى بعد انتخاب يحيي السنوار على رأس حركة “حماس”، فإطلاق حزب الله عمليته الإنتقامية تحدد بعد إعلان حركة “حماس” رفضها للتسوية في صيغتها الأخيرة. وقد يعتبر البعض أن هذا الأمر شكلياً، لكنه يؤشر في وضوح الى الترابط المتين القائم. واستطرادا فإن الحسابات المتأنية التي قد تكون واكبت التحضير للضربة ربما لحظت في أحد جوانبها أن يستفيد الوفد “الحمساوي” المفاوض وأن تتعزز أوراقه عندما سيعود الى طاولة التفاوض.

والإستنتاج الثالث بأن هذه الحماوة تزامنت مع المشاورات الجارية في أروقة الأمم المتحدة للبحث في التمديد لقوات الطوارىء الدولية العاملة في جنوب لبنان. وتجدرالإشارة الى أن الجانب الأميركي والذي يتولى التفاوض مع لبنان من خلال آموس هوكشتاين حول القرار 1701، كان طرح إدخال تعديلات على مهمات قوات “اليونيفيل”. ولا بد من أن تعزز الضربة التي حصلت وجهة النظر الفرنسية المعارضة للتعديلات المطروحة.

لا شك في أن النار التي تصاعدت بقوة من غزة وما تزال، والتي تتصاعد ولو بوتيرة “مدوزنة” في لبنان تعمل على إنضاج طبخة إعادة تشكيل النفوذ السياسي للمنطقة. ولكن المصالح كبيرة والقوى الإقليمية الكبرى تعيد إنتاج أدوارها. فعلى سبيل المثال من كان يتصور اعادة نسج علاقات متينة بين القاهرة وأنقرة، حيث تم وضع النزاع “الإخواني” جانبا لمصلحة تعاون يقارب حدود التحالف بكل ما للكلمة من معنى. ذلك أن هذه العلاقة بين أكبر بلدين مسلمين سُنيين في المنطقة سيسمح بإنشاء ما يشبه الكماشة للساحات الرخوة فيها. وصحيح أن أنقرة أبلغت الى واشنطن وعواصم المنطقة أنها ترفض فتح أجواءها أمام أي تحرك لحلف “الناتو” الذي هي عضو أساسي فيه في حال نشوب نزاع واسع في المنطقة إلا في حالات الإخلاء، إلا أنها تنسج تفاهمات ميدانية مع القوات الأميركية في سوريا ليست على حساب الأكراد على رغم من حساسية الملف.

هو الشرق الأوسط بتعقيداته الهائلة ومصالحه المتداخلة وتناقضاته العجيبة، وهو ما يجعل حروبه بلا أفق وتسوياته صعبة وغير مكتملة.

جوني المنير-الجمهورية