يس في المعمورة منذ قرن تقريباً، ما يثير المخاوف منه وعليه، أو يخضع للمراقبة الحثيثة المركزة، أكثر من الدولار الأميركي، الذي وصفه أهل المال والأعمال بـ”سيد العالم”.
تنفرد العملة الأميركية بين نظيراتها في الاقتصادات الكبرى، بأنها “العملة التي تتم بها 88% من المعاملات في العالم، وتشكل 58% من احتياطي العملات الأجنبية” وفق “بلومبرغ”. فعلى الرغم من التقلبات السياسية وتبدل العهود وحكام البيت الأبيض، يبقى ثبات الدولار وقوته مستمدّين من عاملين أساسيين: الأول، قوة الاقتصاد الأميركي وتصدّره لائحة الإنتاج والإبداعات في المجالات كافة، والثاني، رسوخ وظيفة المؤسسات والقوانين في إدارة الحياة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة، ودورها في تعزيز الأمان والاستقرار السياسي.
وشهد الدولار الأميركي طوال تاريخه، هجمات ومحاولات إقصاء عدة، لإزاحته عن عرش التبادلات العالمية، ووقف اعتماده في الصفقات والعقود الدولية. بيد أن البدائل المفترضة، كاليورو واليوان وبتكوين وغيرها، لم تنتج ما يكفي من الثقة بها لاعتمادها كلياً، باستثناء الذهب الذي أثبت جدارته في حماية احتياطات البنوك المركزية والاستثمارات، بيد أنه ليس عملة تسوّق، فيما فرضت الأسواق المالية والمصارف الأميركية نفسها، كرافعة موثوقة للتجارة والاقتصاد العالمي.
ولكن، بدءاً من عام 2023 شهدت الأسواق المالية حول العالم انتقالاً من دورة تشديد السياسات النقدية الأكثر عدوانية منذ 40 عاماً في جميع أنحاء العالم، نحو استقرار نسبي في معدلات الفوائد حدّد معه معالم المحطة النهائية لسياسات التشديد النقدي. اندفع بنك الاحتياطي الفيديرالي إلى تجميد قرارات رفع الفوائد مؤقتاً، بعد 11 زيادة متتالية بين آذار 2022 وتموز 2023، لتتعبّد الطريق أمام مسار الهبوط الآمن الذي كان مرتقباً خلال عام 2024، فيما أعاقت المخاطر الجيوسياسية نوعاً ما عملية الانتقال تلك. وتالياً فإن عام 2024 حتى تاريخه كان عام التحولات والتقلبات في الأسواق المالية العالمية في ظل تحديات اقتصادية وجيوسياسية جمة عززت من حال عدم اليقين التي خيمت على الأسواق العالمية ولا سيما خلال النصف الأول من العام.
ويرى الأمين العام المساعد لاتحاد أسواق المال العربية الدكتور فادي قانصو أن “تفاقم حدة التوترات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط أثرت تأثيراً ملحوظاً على الأسواق المالية من خلال تقلبات الأسعار، كما أسهمت في تأجيج المخاوف من عدم الاستقرار الاقتصادي ومن إمكان دخول بعض الاقتصادات الكبرى في خانة الركود الاقتصادي، فضلاً عن تأثيرها على سلاسل التوريد، وأسعار السلع مثل النفط والذهب، ونشاط التجارة العالمية وحركة النقل البحري، بما أدى إلى تقلبات كبيرة في الأسواق المالية عموماً.
يضاف إلى ذلك، أن الضبابية التي خيّمت على موقف المصارف المركزية العالمية، وتحديداً الفيديرالي الأميركي، حيال الإبقاء على معدلات الفوائد أو خفضها، أسهمت أيضاً في إدخال المستثمرين في حال من الترقب والتريث والعزوف عن المخاطرة خلال عام 2024″.
في السياق، تأتي تساؤلات اللبنانيين حيال مدى قوة الدولار الأميركي الذي يحتفظ معظم اللبنانيين به في خزائن منازلهم بعد نكسة المصارف اللبنانية، وإن كان لا يزال الادخار أو الاستثمار فيه مجدياً في ظل المخاوف من تآكل قيمة الرساميل من جراء ارتفاع أسعار السلع والخدمات.
ولتقييم قوة الدولار الأميركي وأدائه في سوق الصرف الأجنبي، يرى قانصو أن من الضروري تتبع مؤشر الدولار الأميركي لكونه مؤشراً معترفاً به على نطاق واسع وهو بمثابة أداة مهمة لتقييم القيمة الإجمالية للدولار الأميركي مقارنة بعملات مثل اليورو والين الياباني والجنيه الاسترليني والدولار الكندي والكرونا السويدية والفرنك السويسري. ويستند قانصو الى تطور المؤشر على مدى 40 عاماً، إذ شهد مؤشر الدولار الأميركي استقراراً واضحاً على المدى الطويل، مع بلوغ مؤشر الدولار الأميركي اليوم مستوى عام 1986، باستثناء حقبتين شهد فيهما المؤشر ارتفاعات غير مسبوقة وتحديداً بين عامي 1995 و2002، خلال الوهن الاقتصادي العالمي الذي ضرب اقتصادات ثلثي الناتج العالمي بين عامي 2000 و2001، وفي أعقاب الأزمة المالية الآسيوية بين عامي 1997 و1998، وسجل تراجعات قياسية بين عامي 2003 و2008 ولا سيما إبان الأزمة المالية العالمية غير المسبوقة في عام 2008.
وتالياً يرى قانصو أن الدولار الأميركي، عبر الاكتتاب في سندات الخزانة الأميركية، كان ولا يزال الملاذ الآمن بالنسبة للمستثمرين في مراحل الهشاشة الاقتصادية وارتفاعات معدلات الفوائد والعزوف عن المخاطرة نتيجة ضبابية الآفاق الاقتصادية العالمية، فيما من المتوقع أن يشهد مؤشر الدولار الأميركي في المرحلة المقبلة تراجعات معتدلة، في امتداد للوتيرة المستمرة منذ أول تموز الماضي، ولا سيما في ظل التوقعات بالبدء في خفض معدلات الفوائد في شهر أيلول من الفيديرالي الأميركي بعد أن اقتربت نسب التضخم من معدلاتها المستهدفة بحدود 2%.
الذهب الى أين؟
وفي ظل هذا المناخ المتلبد اقتصادياً ومالياً وجيوسياسياً، كان للذهب حصة الأسد خلال عام 2024، إذ سجل ارتفاعات قياسية ومستويات غير مسبوقة، ويتوقع قانصو أن تستمر أسعار الذهب في الارتفاع في المرحلة المقبلة “ولا سيما في ظل التوقعات الجدية بانتهاء دورة التشديد النقدي أو سياسات رفع معدلات الفوائد حول العالم واتجاه المصارف المركزية إلى خفض معدلات الفائدة في الربع الأخير من عام 2024”.
إلى ذلك يلفت قانصو إلى أن “تحركات أسعار الذهب كانت ولا تزال مرتبطة بالتطورات الجيوسياسية حول العالم من الحرب الروسية في أوكرانيا إلى الحرب في غزة، التي دفعت المستثمرين والمصارف المركزية حول العالم للجوء الى الذهب كملاذ آمن في ظل الضبابية في الأسواق والمخاوف من اتساع رقعة الحرب”.
وتكشف تقارير اتجاهات الذهب ان مجمل الطلب العالمي سجل ارتفاعاً بنحو 3% في عام 2023، ليصل إلى 4,899 طناً وهو أعلى مستوى مسجّل منذ عام 2010. واستمر بطبيعة الحال الطلب على الذهب خلال النصف الأول من عام 2024، فارتفع بنسبة 3% على أساس سنوي في الربع الأول من 2024 إلى 1,238 طناً، مسجلاً أقوى طلب في أي ربع أول منذ عام 2016، ونما بنسبة 4% في الربع الثاني من العام إلى 1,258 طناً، الأعلى تاريخياً وفق بيانات مجلس الذهب العالمي التي تعود إلى عام 2000.
في المقابل، يظهر مسار أسعار الذهب منذ 40 عاماً ارتفاعاً طويل الأمد بأكثر من 8 أضعاف، من نحو 300 دولار للأونصة في عام 1986 إلى أكثر من 2,500 دولار للأونصة اليوم. وتالياً يعتبر قانصو أن “مكاسب الذهب على المدى الطويل تبدو واضحة المعالم أكثر مما هو عليه الواقع في المدى القصير أو المتوسط، مع التشديد على أن الذهب يبقى أهم أداة تحوّط ضد التضخم للمحافظة على الرساميل من تآكل قيمتها من جراء ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وأداة لها طابع الملاذ الآمن يلجأ إليها المستثمر في أوقات الحروب أو الأزمات الاقتصادية، حين يتجنب المستثمر الأدوات الاستثمارية ذات المخاطر المرتفعة كالعملات المشفرة والمشتقات المالية والأسهم وغيرها”.
ويخلص قانصو الى التأكيد أن “الملاذات الآمنة، كسندات الخزانة الأميركية والذهب، ليست إلا محطة نلجأ إليها في وقت الأزمات العصيبة. وعندما تنحسر المخاوف والضبابية في الأسواق وتتحسن الأوضاع الماكرو اقتصادية حول العالم، لن تكون حينها ضمن اهتمامات المتداولين والمستثمرين وستشهد بطبيعة الحال بعض التراجعات”.
وهذا يعني برأيه أن “تنويع الاستثمارات وتوزيعها على مجموعة متنوّعة من الأصول المالية، مثل الأسهم والسندات والعقارات والصناديق الاستثمارية وغيرها، يعد استراتيجية أساسية وضرورية، بهدف تقليل التأثير السلبي لأي انخفاض في قيمة أحد الأصول على محفظة الاستثمار ككل. والأهم من كل ذلك، أن عمليات التداول والتوظيفات تتطلب متابعة حثيثة لآخر المستجدات الاقتصادية والمالية والسياسية على الساحة العالمية، وفهماً عميقاً للنظريات الاقتصادية ومعامل الارتباط بين مختلف المؤشرات الماكرو اقتصادية والمالية والنقدية عموماً”.
“النهار”- سلوى بعلبكي