على مدى سنوات فتحت إسرائيل “جبهة سوريا” عسكرياً من خلال تنفيذ عمليات جوية.
كانت سوريا هي الساحة الأمثل لتصفية حسابات إسرائيلية مع إيران وحزب الله. الهدف الإسرائيلي هو ضرب مواقع قوة وتصنيع ونقل الصواريخ والأسلحة وطرق الإمداد من قبل إيران إلى الحزب في لبنان. وطالب الإسرائيليون أن ينسحب الإيرانيون لمسافة 40 كلم عن الحدود الجنوبية لسوريا. أشعلت تل أبيب جبهة سوريا بعمليات متقطعة، وبشكل منفصل عن غيرها من الجبهات.
منذ عملية طوفان الأقصى ومحاولة إيران لتكريس مبدأ وحدة الساحات، عملت دمشق على تحييد نفسها، على الرغم من استمرار الضربات الإسرائيلية وتكثيفها وصولاً إلى تنفيذ عمليات إنزال أو كومونودس على غرار العملية التي حصلت قبل أيام في منطقة مصياف لتدمير مصنع لتطوير الصواريخ الدقيقة.
صراع الأجنحة
يأتي ذلك في ظل صراع أجنحة تعيشه سوريا ويتوسع داخل بنية النظام، ويأخذ في التفاقم بين جهات إقليمية ودولية متعددة. منذ الإنفتاح العربي على دمشق، بتنسيق مع روسيا، وببعض من غض النظر الأميركي، بدأت التجاذبات تتسلل إلى الساحة السورية والبنية السياسية والعسكرية والأمنية والإقتصادية والمالية للنظام. دول عديدة عملت على فتح مسارات للتفاوض غير المباشر بين دمشق وتل أبيب في محاولة لإعادة إحياء مفاوضات كانت متوقفة منذ سنوات، فيما لا يمكن إغفال حجم التنافس الإيراني الروسي فوق الجغرافيا السورية، والذي أضيف إليه جانب من التنافس العربي الإيراني؛ لا سيما أن سوريا في وضع سياسي واقتصادي ومالي يعاني من انهيار طويل الأمد.
يمكن لهذه المنافسات أن تستمر طويلاً وتتوسع، مع الإشارة إلى أنه بالتزامن مع أي خطوة عربية باتجاه دمشق، يبرز موقف إيراني يذكّر بالديون المتوجب على النظام إيفاءها، ويتم تقديم سلسلة مطالب على شاكلة “إتفاقات أو استثمارات”. جانب من هذه المنافسات له طابع أمني أو سياسي، من خلال التغييرات في المواقع الأمنية والعسكرية التي أجراها النظام قبل فترة، أو من خلال بعض التوقيفات أو التصفيات التي حصلت، والتي تدل على وجود صراع أجنحة داخل القصر.
تحوّل استراتيجي
برزت هذه المنافسات أو التجاذبات أكثر في ظل اتساع رقعة الحرب على غزة وشمولها على جبهات متعددة ولا سيما الجبهة اللبنانية،. وفيما عملت دمشق على تحييد نفسها، أبدت طهران وحزب الله تفهماً لسوريا على موقفها بسبب الضغوط التي تتعرض لها، في مقابل عدم إقدام سوريا على قطع طرق الإمداد بالأسلحة والعتاد واللوازم، وربما لعدم قدرتها على ذلك بسبب سيطرة وتحكم طهران والحزب بطرقات ومفاصل أساسية على الجغرافيا السورية. الأساس في الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه دمشق هو قطع طرق الإمداد العسكرية عن حزب الله، وهو ما يتزايد حالياً في ظل فتح الحزب لجبهة الجنوب.
ما حصل في مصياف خلال الأيام الماضية يمثّل تحولاً استراتيجياً في المسار العسكري والأمني الإسرائيلي، لا سيما أن رواية الإنزال تتأكد أكثر فأكثر، علماً أن تلك المنطقة كانت قد تعرضت أكثر من مرّة لعمليات قصف لكن الغارات لم تنجح في تدمير المنشأة. فأيقن الإسرائيليون أنهم غير قادرين على تدمير المنشأة بالغارات الجوية، لأسباب عديدة أبرزها أن طريقة بناء المنشأة داخل الجبل الصخري معاكسة للهواء ولحركة الطيران، ولا يمكن إصابتها. ليست عملية الإنزال التي حصلت، هي الوحيدة طوال السنوات الماضية؛ فقد أجرى الإسرائيليون عمليات مماثلة في الجنوب السوري وليس في العمق، إلا أن العملية الأبرز كانت هي التي أعلن عنها الموساد في العام 2018، عندما نفّذ عملية كومونودوس استعاد فيها ساعة يد العميل الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين. كما حاول الإسرائيليون القيام بعمليات مماثلة بحثاً عن جثّة الطيار رون أراد.
بنك أهداف اسرائيلي
وكانت الساحة اللبنانية قد شهدت عمليات إنزال أو كوموندوس مشابهة قبل عقود؛ بينما في المواجهة الحالية أعلن حزب الله أكثر من مرّة عن إحباط عمليات تسلل إسرائيلية في قرى الجنوب، وفي حرب تموز نفذ الإسرائيليون بعض العمليات المماثلة في عدد من المناطق.
هذا المسار الإسرائيلي الجديد المعطوف على الجبهة المفتوحة عسكرياً مع الحزب في لبنان، هو ردّ على معادلة كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قد رفعها سابقاً وقبل سنوات بأن “من يريد مقاتلتنا فليذهب إلى سوريا”. حالياً يفتح الإسرائيليون الجبهتين معاً، بعمليات متقطعة ومتناسقة في سياق تحقيق الأهداف وهي إضعاف قوة الحزب أو قطع طرق الإمداد.
يستخدم الإسرائيليون هذه الطريقة العسكرية ما بين لبنان وسوريا، في ظل ضغوط أميركية كبيرة للجمهم عن الدخول في حرب كبرى، ولانعدام قدرة الإسرائيليين عن خوض الحرب الواسعة من دون غطاء أميركي واضح ومباشر. ما يوافق عليه الأميركيون بحسب معلومات ديبلوماسية هو استخدام الغارات الجوية، والقيام بعمليات تدمير للمخازن والمنشآت وعمليات الاغتيال التي تتم مشاركتها مع البنتاغون. يجهد الأميركيون لعدم اتساع رقعة الحرب، في مقابل إصرار الإسرائيليين على مواصلة عملياتهم وتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من أهداف، لا سيما أنهم يرتكزون على فكرة رفض الحزب للإنجرار إلى الحرب الكبرى.
يستعيض الإسرائيليون عن فكرة الحرب الكبرى والممنوعة عليهم، بتحويل “جبهة المساندة” أو حرب المشاغلة التي دخلها حزب الله، إلى حملة عسكرية ممنهجة ولها بنك أهداف محدد، يعملون على قصفه وتكون تل أبيب هي صاحبة المبادرة فيها، وهي التي تحدد طبيعته، في سبيل تغيير أمر واقع عسكري يسبق أي تفاوض أو ترتيب لتنفيذ أي قرار دولي قديم أو جديد، وبذلك تعمل إسرائيل على خلق اصطلاح جديد لما كان يُسمى “بوحدة المسار والمصير” سورياً ولبنانياً.
منير الربيع – المدن