لماذا تدّمر إسرائيل القرى الحدودية؟

لماذا تدّمر إسرائيل القرى الحدودية؟

إذا أراد المرء تعداد الغارات الإسرائيلية التي تستهدف القرى الحدودية الأمامية لما استطاع احصاءها نظرًا إلى كثرتها، مع ما ينتج عنها من خسائر بشرية ومادية، علمًا أن معظم أهاليها قد غادروها، ولم يبقَ فيها سوى العناصر الحزبية المقاتلة، الذين لا يزالون يقاتلون، وإن في المواقع الخلفية غير المتقدمة. فما تقوم به إسرائيل من تدمير ممنهج لهذه القرى يهدف بالتأكيد إلى إفراغها من المسلحين أولًا، ومن سكّانها ثانيًا، بحيث لا تعود العودة إليها ممكنة، خصوصًا أن الأراضي الزراعية لم تعد صالحة لحراثتها من جديد. فمعظم أهالي الجنوب يعتمدون في معيشتهم على الزراعات الموسمية كشتول التبغ والزيتون. وقد لفت مشهد تفجير حيّ بكامله في بلدة ميس الجبل دفعة واحدة أنظار المراقبين الدوليين، الذين تصل إليهم تقارير أمنية يومية عن التطورات الميدانية. وما يخشاه هؤلاء المراقبون هو تحويل القرى الحدودية الأمامية على طول الخطّ الأزرق من الناقورة حتى مزارع شبعا أرضًا محروقة قد يصبح من المتعذّر على أهاليها العودة إليها قريبًا حتى ولو تمّ التوصّل إلى وقف للنار في المدى المنظور.

وفي رأي هؤلاء المراقبين أن هدف إسرائيل قد أصبح واضحًا، وهو جعل الحياة في هذه القرى مستحيلة أقله على بعد ما يقارب العشرة كيلومترات عمقًا، خصوصًا أنها استطاعت أن تدّمر التحصينات والأنفاق التي أقامها “الحزب” في “قرى – الحافة” على مدى سنوات طويلة. وبذلك تكون تل أبيب قد ضمنت عدم قيام “المقاومة الإسلامية” بأي هجوم على المستوطنات الشمالية على غرار عملية “طوفان الأقصى التي قامت بها حركة “حماس” في 7 تشرين الأول من العام الماضي، مع علمها المسبق أن “الحزب” بما لا يزال يمتلكه من صواريخ بعيدة المدى قادر على استهداف هذه المستوطنات حتى ولو تراجعت عناصره إلى شمال الليطاني. إلاّ أن هذا الأمر لا يشكّل بالنسبة إلى القيادة العسكرية في تل أبيب مشكلة حقيقية، لأن إعادة المستوطنين إلى الشمال الإسرائيلي تفرض، وفق النظرية العسكرية الإسرائيلية، أن يكون الجزء الجنوبي من لبنان المحاذي للخط الأزرق خاليًا من المسلحين وحتى من الأهالي. وهذا هو التفسير الوحيد لعملية التدمير المبرمج والممنهج لهذه القرى، وذلك بالتزامن مع قصف لا يقّل حدّة للقرى الخلفية، والتي لها رمزيتها التاريخية في وجدان أهالي جبل عامل كالنبطية وبنت جبيل وصور والقرى المحيطة بهذه المحاور الجنوبية، فضلًا عن استهداف مناطق بقاعية لها رمزيتها التاريخية أيضًا كبعلبك وقرى قضائها، وذلك بحجّة أن القرى المستهدفة تشكّل خزانًا بشريًا لـ “المقاومة” وفيها مخازن للسلاح المتوسط والثقيل.

ولا يستبعد هؤلاء المراقبون أن يكون هدف إسرائيل من وراء تهجير ما يقارب المليون وثلاثمئة شيعي من قراهم الجنوبية والبقاعية ومن الضاحية الجنوبية لبيروت إلى المناطق، التي لا تزال في منأى عن القصف اليومي في الجبل بكل أقضيته والشمال. ومن دون هذا التهجير لن تكتمل حلقات ما اصطُلح على تسميته “مؤامرة”، وذلك انطلاقًا من نظرية لبنانية قائمة على الأمثال الشعبية، والتي يقول إحداها “بعود تحبك وقرّب تسبّك”.
ولكي لا يُفسّر أي كلام يمكن أن يُقال في مجال الواقع التهجيري على غير مقصده فإنه لا بد من المسارعة إلى التأكيد أن لا نيّة لأي طرف، سواء أكان مهجّرًا أو مستضيفًا، الانزلاق إلى ما يُخطّط له في الخارج من “تشجيع” على فتنة يبدي كثيرون خشيتهم من وقوعها على خلفية طبقية وليس طائفية كما يحلو للبعض تسميتها. لكن هذا الحرص الذي يبديه الجميع على السلم الأهلي لا يعني عدم وجود بعض المشاكل الفردية، التي تتمّ معالجتها سريعا سواء عن طريقة “تبويس اللحى” التي تقوم بها أحزاب مناطق الايواء أو الاستضافة، أو عبر الاستعانة بالجيش في حال لم تمشِ سياسة “إزرعها بدقني”.  
فمهما طالت الحرب، وهي طويلة، ستنتهي في يوم من الأيام. ولكن على المعنيين البدء بالتفكير اليوم قبل الغد بما يمكن القيام به في اليوم التالي، وبالتحديد في ما يتعلق بعلاقة اللبنانيين بين بعضهم البعض. فالمطلوب من الجميع ترتيب الأولويات بدءًا بانتخاب رئيس للجمهورية وانتهاء بقرار الحرب والسلم وخطة الدفاع الاستراتيجية، فضلًا عن مناقشة كل “كبيرة” وكل “صغيرة” التي تجعل التقارب اللبناني – اللبناني مشوبًا بالحذر الدائم.

المصدر: اندريه قصاص – لبنان24