الحريري.. قرار معلق بوقف التعليق
نُقل عن الرئيس الراحل تقي الدين الصلح، أنه روى إنه لاحظ مع بداية الخمسينيات، أي مع نهاية الولاية الأولى للرئيس بشارة الخوري، أن نسيبه رئيس الحكومة الاستقلالية الأولى رياض الصلح، شارد الذهن في أحيان كثيرة ويشعر بالغم، بين فترة وأخرى. ولذلك قصده في مكتبه لاجتماع منفرد، ليسأله عن سبب معالم انزعاجه وحقيقة العلاقة بينه وبين رئيس الجمهورية بشارة الخوري. إذ لاحظ تقي الدين أن العلاقة بينهما قد اختلفت عن السابق.
فأجاب رياض قريبه، إنه كان يظن أن ما من أحد قد لاحظ هذا الأمر، لكن بعد إلحاح من تقي الدين، أسرّ رياض له بقوله: “منذ نكبة فلسطين تغير عليي الرئيس.. وبدك للصح نكبة فلسطين قصمت ظهري”.
أضاف، “منذ تلك النكبة تغيرت تصرفات الرئيس تجاهي.. كان موقعي لديه من موقع العرب، الذي كان موقعهم قوياً ومهاباً، لكن بعد خسارتهم ونكبتهم في فلسطين تغيرت تصرفاته تجاهي ومعي. وبدأت أحس وكأن موقعي بالنسبة إليه قد ضعف بضعف العرب وتراجعهم”.
مرد ذكر هذا الكلام الآن، هو العراضة التي قدمها تيار المستقبل، في الأسبوع الماضي، بالتزامن مع الزيارة التي قام بها الرئيس سعد الحريري إلى لبنان، لمناسبة الذكرى التاسعة عشرة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري.
الزيارة السنوية هذه المرة، كانت موضع اهتمام إعلامي وسياسي وشعبي، وقد حملت أسئلة كثيرة، لكنها لم تخرج بأجوبة واضحة حول مصير قرار الرئيس سعد الحريري بالنسبة لموقفه تعليق العمل السياسي.
ما من شك، أن أغلب ما جرى ورافق زيارة الرئيس الحريري الأسبوع الماضي، كان على الأغلب بقرار وطلب ورغبة منه شخصياً. وقد انصرفت قيادة التيار للإعداد والتحضير لهذه المناسبة، انطلاقاً من شعار أن “الجمهور عايز كده”، وأن الناس قد اشتاقت للرئيس الحريري، وهي عبرت عن هذا الاشتياق بالذي جرى لمطالبته بالعودة عن قراره تعليق العمل السياسي.
الحقيقة التي يعرفها كثر، أن الناس وجمهور تيار المستقبل قد افتقدوا لحضور الحريري، خصوصاً مع الحضور الكثيف والفاعل لقيادات أخرى من تجمعات سياسية وطائفية أخرى. فيما غاب أو ضعف دور قيادات لدى أهل السنّة والجماعة، وخصوصاً مع الإفرازات التي خرجت بها الانتخابات النيابية الأخيرة. حيث تبين فشل أكثر من محاولة لجمع أصوات أو نواب أو كتل سنّية بأي طريقة كانت.
هذا كله أوجد فراغاً نتيجة غياب الكتلة السنية في موازاة الكتل الطائفية والمذهبية الأخرى. ولم ينجح أي جهد من أي طرف في استقطابه. خصوصاً مع موضة الطوائف القوية والمجتمعة والمتحدة، والتي شجعتها نتائج اعتماد قانون الانتخاب الأخير، المصاب بالتشوهات والعاهات الخلقية الوطنية، المشجعة على التحريض والتجميع والتلميع الطائفي والمذهبي على أكثر من مستوى.
حضور الحريري الصاخب، خلال أسبوع ذكرى والده حمل أكثر من إشارة. فهو أراد ان يقول لمن يهمه الأمر، ولكل المراقبين والفاعلين المحليين والخارجيين “إنني الشخصية والزعامة الأقوى حضوراً وشعبية، والأفعل في تحريك الشارع والرأي العام”، وأنه لا يزال الطرف الأقوى على الساحة السنية، والأجدر في القيادة والجمع والتجميع والتحريك والاعتماد والتجيير إذا أراد.
لكن الحريري الذي قدم هذه البروفة بنجاح، تحدث بوضوح عن رغباته وأهدافه من دون تردد.
فهو قال في احاديثه المتعددة جملة أمور دالة وواضحة:
1- منها قوله بشكل مستغرب، إن المجتمع الدولي رغب بالتغيير وأنا تبرعت للاستقالة وإفساح المجال لغيري… الخ.
2- إن البلد ما زال يراوح في المشكلة، وما من أحد يتنازل أو يتراجع عن موقفه بالرغم من الخراب والخسائر والتدهور.
3- إن الخطوات التي تقوم بها العربية السعودية تجاه تحسين العلاقة مع إيران جيدة جداً، وإني أول من باشر بسياسة تصفير المشكلات، والخوض بالتسويات وصولاً إلى السلام، لتطوير وتكبير الاقتصاد.
4- إني الآن باق على موقفي بتعليق العمل السياسي ولم أغيره. وعند تغير الظروف سأنظر في الأمر، مستخدماً تعبير “كل شي بوقتو حلو”.
5- إن تيار المستقبل هو القوة الأساسية لدى أهل السنة والجماعة، وهو قوة اعتدال، ونحن لا نقبل أو نسمح بأمرين هما: استضعافنا في مراكز الدولة أو انتشار التطرف في ساحتنا. يعني أنه منزعج مما جرى في وزارة التربية ومستعد لدور في مواجهة التطرف أو التشدد الإسلامي.
6- ترافقت زيارة وكلام الزعيم الشاب، والذي نجح في صناعة “ماركة” خاصة به Brand في التصرفات السياسية في لبنان، مع أكثر من إشارة جديدة ومفارقة في أكثر من اتجاه منها:
أ– اعترف بفشل التسوية التي أجراها وانغمس فيها. لكنه لم يدخل بتفاصيلها، واكتفى بالقول إنها كانت تجربة فاشلة.
ب– وجه سهاماً رفيعة، وناعمة وللمرة الأولى نحو حزب الله عبر تذكيره وإشارته إلى من كان خلف اغتيال والده وقوله “بشر القاتل بالقتل”.
ج- إن السفيرة الأميركية الجديدة في لبنان كانت أول من زاره وخرجت لتصف اجتماعها معه بالممتاز.
د- تحدث عبر محطتي العربية والحدث المملوكتين من العربية السعودية.
هـ- شدد على دور تيار المستقبل في الاعتدال في مواجهة التطرف. وهو دور قد يكون مرغوباً أكثر في المستقبل ليس بالبعيد.
و- اجتمع إلى العشاء مع المرشح سليمان فرنجية، وصرح من دون تردد إنه يحب هذا الصديق. وقبله، استقبل الملسوع الآخر من جبران باسيل إيلي الفرزلي.
عملياً، قدم الحريري كما يقال “عرض حال” جيد ومتقن، بانتظار الجواب وتغير الظروف وأحوال ونظريات العرب، وهبوب الرياح المؤاتية. لكن ما هو مؤكد أنه شدد على تعليق قراره هذه السنة، باستمرار تعليق العمل السياسي المتبع من قبله، أو الموضوع فيه الآن، أو المطلوب منه، على أمل أن يكون “كل شي بوقتو حلو”.