اقتصاد

“مئوية الدولار” تعمّق الأزمات.. استراتيجية “الإنكار” لم تعد تنفع!

“صادمًا” بدا لكثيرين الرقم القياسيّ الجديد الذي سجّلته الليرة اللبنانية، مع تخطّيها عتبة المئة ألف مقابل الدولار الواحد، بعدما كانت توازي في مراحل سابقة نحو 67 دولارًا، ولو أنّه بدا “طبيعيًا” في سياق “متفجّر” بدأ منذ العام 2019، وتسارعت وتيرته في الآونة الأخيرة، مكرّسًا تدهور العملة الوطنية لمستويات لم يكن يتخيّلها أقصى المتشائمين، في مشهد قد يصحّ وصفه بالسورياليّ على أكثر من مستوى.

لكنّ ما بدا “صادمًا” أكثر تمثّل في طريقة تلقّف اللبنانيين لما ذهب البعض لحدّ وصفه بـ”اليوم الأسود” في تاريخ الاقتصاد اللبناني، ولو أنّ كلّ المؤشرات توحي أنّه سينضمّ إلى سلسلة أيام “سوداء” بالجملة سابقة ولاحقة لهذا اليوم، ومردّ “الصدمة” يكمن في “ردّة الفعل” التي وجدت، مرّة أخرى، في إطلاق النكات، على طريقة “الكوميديا السوداء” ربما،وسيلة لـ”فشة الخلق”، بغياب أيّ آفاق لحلّ الأزمة، أو على الأقلّ، الحدّ من تبعاتها “الثقيلة”.

صحيح أنّ بعض اللبنانيين عاد بالذاكرة إلى “انتفاضة 17 تشرين” التي اندلعت على وقع “ضريبة الواتس اب” المزعومة، ليسأل عن خلفيّات “السكوت المريع” على وصول الدولار لهذا المستوى، إلا أنّ الأغلبية الساحقة منهم لجأت إلى “السخرية من الواقع”، عبر ربط موعد “الثورة المقبلة” برقم قياسيّ آخر، هو 150 ألفًا مثلاً، ليبقى السؤال: إلى متى تستمرّ سياسة “الهروب” هذه، الأقرب لـ”استراتيجية الإنكار”، إن جاز التعبير؟

“الدولرة الشاملة”

لعلّ ما يجعل “مئوية الدولار” تقرع جرس الإنذار أنّها تأتي في ظلّ ظروف صعبة وغير مسبوقة على اللبنانيين، وعلى وقع أزمات متفاقمة على كلّ المستويات، تعمّقها “الدولرة الشاملة” التي باتت مطبَّقة في كلّ القطاعات تقريبًا، رغم أنّ سعر الصرف الرسمي المحدّد عند حدود 15 ألف ليرة للدولار، لا يزال أقلّ بستّ مرّات تقريبًا من السعر الفعلي المحدّد في السوق الموازية، والمعتمد على أرض الواقع.

وإذا كان الإضراب المفتوح الذي استأنفته المصارف هذا الأسبوع، بعد “هدنة” أسبوعين، سرّع من وتيرة انهيار الدولار المتسارع في الأيام الأخيرة، معطوفًا على عودة الوفود القضائية الأوروبية للتحقيق في ملفات وقضايا تبييض الأموال وغير ذلك، فإنّ أسبابه “تتفاوت” برأي كثيرين، بين عوامل “التهريب” التي يتحدّث عنها الخبراء الاقتصاديون في كلّ مرة، إضافة إلى المضاربة والاستغلال، فضلاً عن التطبيقات المعلومة المجهولة.

لكن، بمعزل عن هذه العوامل التي أسهمت ربما في “تعجيل” المئوية “الأولى” للدولار، فإنّ النتيجة الحتميّة لها أنّها تزيد “المأساة” التي يعيشها اللبنانيون، على وقع أزمة اقتصادية صنّفها البنك الدولي بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850، وتوازيًا مع ارتفاع نسبة التضخم إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق في العالم، وكلّ ذلك بالتزامن مع ارتفاع هائل في أسعار السلع الغذائية الأساسية قبل الثانوية، فضلاً عن المحروقات، التي باتت “ترفًا” لكثيرين.

العلاج في السياسة!

إزاء كلّ ما تقدّم، يصبح واضحًا أنّ الحلّ بـ”الكوميديا السوداء” لا يجدي نفعًا، ولو حاول اللبنانيون من خلاله “تنفيس” احتقانهم، والتخفيف من حدّة “الغضب” الذي ينتابهم، و”القلق” من المستقبل الآتي، تمامًا كما أنّ اللجوء إلى “المسكّنات” التي لا تعالج المشكلة من جذورها لن يغيّر شيئًا، فتعاميم مصرف لبنان مثلاً لا تنجح في التخفيف من “اندفاعة” الدولار سوى لأيام، ينهض بعدها لتسجيل المزيد من المستويات القياسيّة وغير المسبوقة.

بمعنى آخر، يقول العارفون إنّ “استراتيجية الإنكار” السالفة الذكر، والتي يتشارك فيها الناس والمسؤولون، إن جاز التعبير، ما عادت تنفع، والمطلوب البحث عن علاج جدّي وجذري، لا شكّ أنّ السياسة هي “مَدخَله الأول”، فالشلل السياسي الذي تعيشه البلاد، والذي عمّقه الفراغ الرئاسي المستمرّ منذ أواخر تشرين الأول الماضي، يزيد الأمور سوءًا، تمامًا كالمزايدات الشعبوية التي تشلّ المؤسسات وتعطّلها، وعلى رأسها الحكومة والبرلمان.

فحتى لو كان مجرّد انتخاب رئيس للجمهورية غير كافٍ لحلّ المشكلات التي يتخبّط فيها البلاد، باعتبار أنّ أيّ رئيس يُنتخَب اليوم لن يكون قادرًا على إعادة الأمور إلى نصابها في اليوم التالي بعصا سحرية لا يملكها أحد، إلا أنّ الأكيد أنّه قادر إذا ما جاء نتيجة تفاهم واسع بين اللبنانيين، أن يخلق جوًا من الاستقرار، ينعكس تلقائيًا على المؤسسات، بما يتيح إعادة الانتظام إليها، بما يسمح بإطلاق مرحلة “الإنقاذ”، ولو بشكل “تدريجي”.

ليس خافيًا على أحد أنّ “مئوية الدولار” لم تكن مباغتة، ولو جاءت “أسرع من التوقعات”، برأي كثيرين، ممّن ما عاد يفاجئهم شيء في عالم السوق الموازية “السوريالي” إن جاز التعبير. لكنّ المطلوب عدم الاكتفاء بـ”الإنكار”، بما يشبه “الانفصام عن الواقع”، ولا التعامل مع الأمور وكأنّها “تحصيل حاصل”، وإلا فستكون المئوية الثانية، وربما الثالثة والرابعة إلى آخره، أقرب بكثير ممّا يخال المتشائمون أنفسهم!

لبنان 24

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى