اقتصاد

90 مليار دولار ودائع عصيّة على التذويب… ما العمل؟

لسنوات عديدة قبل العام 2019 كانت المصارف اللبنانية تتباهى بحجم الودائع الهائل لديها نسبة الى الناتج المحلي الإجمالي ووصل ذلك الحجم أوائل 2019 إلى حوالي 170 مليار دولار (ودائع بالليرة والدولار) في وقت كان حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد 55 مليار دولار. أودعت المصارف جزءاً كبيراً من تلك الودائع في مصرف لبنان طمعاً بالفوائد والأرباح وواصلت الانغماس في الديون السيادية رغم تحذيرات عديدة محلية وخارجية من الاستمرار بهذا النهج التدميري للودائع في دولة فاسدة ومنهوبة تعاني عجوزات مالية مستمرّة.

كان حجم الودائع بالعملات الأجنبية في القطاع المصرفي 129 ملياراً في حزيران 2019 وتراجع الى 124 مليار دولار في 15 تشرين الأول 2019، ليصل في آذار 2023 الى 93,3 مليار دولار أي بتراجع قيمته حوالي 34 مليار دولار. بدأت تلك الودائع تتقلّص تدريجياً نتيجة تعرّضها لعملية تذويب قصرية من خلال تعاميم مصرف لبنان أبرزها 151 و158، ومن خلال تسديد قروض القطاع الخاص على سعر صرف الـ1500 ليرة ومن خلال الشيكات المصرفية وعبر لجوء جزء كبير من المودعين الى بيع الشيكات المصرفية لقاء مبالغ نقدية تقلّ بنسبة بدأت بـ10 في المئة ثم وصلت الى 90 في المئة من قيمة الشيك، بالإضافة الى عمليات سحب وتحويل الأموال الى الخارج بصورة استنسابية وغير شرعية حتّى قبل اندلاع ثورة تشرين وبعدها.

الشماس: هذه عيّنة ممن هرّبوا أموالاً إلى الخارج

وفي هذا الإطار، كشفت رئيسة جمعية مدراء مؤهلون لمكافحة الفساد جينا الشماس على سبيل المثال عن لجوء أفراد نافذين الى سحب أو تحويل أموال الى الخارج بقيمة مليار و200 مليون ناتجة عن قيام “الرئيس نجيب ميقاتي بسحب 200 مليون دولار في 9 أيلول 2019، وتحويل 500 مليون دولار في 1 تشرين الأول 2019 الى الخارج. بينما سحب محمد الحوت 10 ملايين دولار في 8 أيلول 2019 وحوّل 60 مليوناً في 10 أيلول الى الخارج. كذلك سحب وليد جنبلاط 310 ملايين دولار في 14 أيلول. وفي 28 أيلول، سحب الوزير السابق أكرم شهيب 14 مليوناً، وفي 22 آب سحب الوزير السابق جمال الجراح 22 مليون دولار، وفي 16 آب سحب المقاول جهاد العرب 34 مليوناً. وفي 14 أيلول سحب أحد الاشخاص من عائلة زين 20 مليون دولار، وأحد أفراد عائلة بري 43 مليوناً في 13 أيلول 2019. وفي 21 أيلول، سحب الوزير السابق محمد المشنوق 16 مليون دولار”.

أما بعد 17 تشرين 2019، ورغم إقفال المصارف أبوابها وتوقّفها عن تسديد الودائع وفرض قيود على السحوبات النقدية، حصلت عمليات تحويل أموال الى الخارج “بعزّ الأزمة” وبصورة استنسابية مستفيدة من عدم التطبيق الفوري لقانون فرض ضوابط على رأس المال capital control، وذلك بقيمة 2,6 مليار دولار وفق ما أعلنه حاكم مصرف لبنان نفسه في أواخر 2019، إلّا أن الرقم الفعلي وفقاً للتقديرات يتراوح بين 12 و14 مليار دولار علماً أن التحقيقات التي تم فتحها في هذه القضية لم تكشف لغاية اليوم عن أسماء الأشخاص وحجم الأموال المهرّبة الى الخارج بعد 17 تشرين 2019.

التعميم 158: 181 ألف عميل مودع “مستفيد”

أما التعميم 158 الذي أصدره مصرف لبنان في 8 حزيران 2021، فقد أدّى وفقاً لما أكّده بيان صادر عن مصرف لبنان مؤخراً، الى تذويب حوالي مليار و779 مليون دولار. حيث أشار البيان الى أن عدد العملاء الذين استفادوا من مفاعيل التعميم الأساسي رقم 158 بلغ ما مجموعه 180 ألفاً و976 عميلاً حتى نهاية شهر نيسان 2023، وقد بلغ المبلغ الإجمالي المدفوع لهؤلاء العملاء ما يوازي ملياراً و778 مليوناً منها 889 مليوناً و474 ألف دولار دفعت نقداً مناصفة بين مصرف لبنان والمصارف. وأشار البيان الى أن المصارف سدّدت كامل الرصيد لـ87 ألفاً و623 حساباً خاصاً متفرّعاً حتى نهاية شهر نيسان 2023، أي ما نسبته 48,42% من مجموع الذين تقدّموا بطلب الاستفادة من مفاعيل هذا التعميم وما زال ما مجموعه 93 ألفاً و583 عميلاً يستفيدون من مفاعيل هذا التعميم في شهر أيار 2023، مع العلم أن هذا الرقم قد يتبدل مستقبلاً في حال قرّر عملاء جدد الاستفادة من هذا التعميم.

التعميم 151 وتسديد قروض القطاع الخاص

وبعد سحب جزء كبير من الودائع الدولارية وفقاً للتعميم 151 على سعر صرف الـ3900 ليرة ومن ثم 8000 ليرة وصولاً الى 15 ألف ليرة بنسبة اقتطاع من قيمة الودائع الفعلية تصل إلى حدود 85% حالياً، فقد ساهم ذلك أيضاً في تذويب جزء إضافي من الودائع. أما ديون القطاع الخاص التي تمّ تسديدها على سعر صرف الـ1500 ليرة أو من خلال الشيكات المصرفية فقد أدّت الى تذويب حوالي 43.9 مليار دولار إضافية من الودائع (منها نحو 30 ملياراً كانت ودائع بالدولار) حيث إنها تقلّصت من 53.9 مليار دولار في تشرين الأول 2019 الى 9.9 مليارات دولار في آذار 2023، ما يعني أنه تم تسديد حوالي 44 مليار دولار من أموال المودعين إما بالليرة على سعر 1507.5 أو بالدولار المحلي. وإذا كان هذا النهج والسياسات النقدية المتبّعة منذ اندلاع الأزمة في 2019 قد أدّت الى تذويب هذا الكم من الودائع خلال 3 سنوات ونصف، فإن استمرار العمل بها من دون تطبيق حلّ جذري لاستعادة الودائع أو تحديد مصيرها وإعادة هيكلة المصارف، يطرح تساؤلات حول مصير الودائع المتبقية.

خلف: مقترضو الأمس أغنياء اليوم

في هذا الإطار، كشف الأمين العام لجمعية المصارف فادي خلف لـ”نداء الوطن” أن الإحصاءات الرسمية لغاية أواخر نيسان 2023 تظهر أن حجم الودائع بالعملات الأجنبية يبلغ 93.9 مليار دولار بما فيها الودائع الـfresh التي يقدّرها بحوالي ملياري دولار. وبالتالي فإن حجم الودائع المحتجزة يبلغ 91,9 مليار دولار. معتبراً أن إمكانية أو فرضية تذويب الودائع المتبقية وصولاً الى تصفيرها غير منطقية لأن الجزء الكبير من التراجع الحاصل في حجم الودائع منذ 2019 ولغاية اليوم ناتج عن تسديد قروض القطاع الخاص (حوالي 30 مليار دولار) على سعر صرف الـ1500 ليرة أو من خلال الدولار المحلي “وهو الأمر المجحف بحق المودعين الآخرين الذين خسروا أموالهم لحساب المقترضين. ما جعل مقترضي الأمس أغنياء اليوم، ومودعي الأمس فقراء اليوم”.

نحتاج الى قرن أو قرنين

وذكر خلف أن وتيرة التراجع بحجم الودائع خفّت كثيراً لأن معظم القروض قد تمّ تسديدها، وبالتالي إذا كان التعويل على التعميمين 151 و158 لتذويب الودائع أو تصفيرها كما يحكى، فإن الأمر يحتاج الى قرن من الزمن بدليل أن التعميم 158 منذ البدء في تطبيقه أدى الى سحب حوالي مليار دولار فقط. وأشار خلف الى ان مصير الودائع المتبقية ستحدّده خطة التوازن المالي التي يجب إقرارها في مجلس النواب ومشاريع القوانين القابعة بالبرلمان والتي أعيد سحبها لإعادة تعديلها، بالاضافة الى كيفية تقسيم الودائع بين شرعية وغير شرعية والودائع التي سيتم تسديدها بالليرة.

صرّوع: شطب الودائع يقوّض فرص النمو

من جهته، اعتبر الخبير المصرفي جو صرّوع أن المودعين الذين استفادوا من تعاميم مصرف لبنان سحبوا ودائعهم بمعدل 10 الى 16 سنتاً لكل دولار أي بخسارة تصل الى معدل 80 في المئة من قيمتها الحقيقية. مشدداً على ضرورة تحديد مصير الودائع المتبقية (نسبة الاقتطاع وفترة السداد) وهو الأمر الذي يتهرّب منه الجميع منذ اليوم الأول للأزمة. وأشار الى أن إعادة هيكلة المصارف أولوية لتحديد المسار والمصير. لافتاً الى أن تذويب الودائع بالشكل الذي يحصل اليوم سيساهم في استيفاء كامل الشروط المالية لصندوق النقد الدولي، حيث إن تصفير الودائع سيؤدي الى تصفير نسبة الدين العام الى الناتج المحلي الإجمالي والى معالجة نسبة الودائع الى الناتج لمحلي الإجمالي والتي تبلغ اليوم حوالي 3 أضعاف، بالإضافة الى معالجة عجز الموازنة، “وهو السيناريو الذي نخشى حصوله لمجرد استيفاء تلك الشروط”. وقال صرّوع إن القضاء على الودائع سيقضي على فرص النمو الاقتصادي.

بركات: هذه هي الإحصائية منذ تشرين 2019

أما كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث في بنك عودة مروان بركات فأوضح لـ”نداء الوطن” أن تحليل وضعية القطاع المصرفي التراكمية منذ بداية الأزمة المالية في لبنان، أي بين تشرين الأول 2019 ونيسان 2023، يظهر الاتجاهات التالية:

– تراجعت ودائع الزبائن من 168.4 مليار دولار في نهاية تشرين الأول 2019 الى 97.7 مليار دولار في نهاية نيسان 2023، أي بمعدل 42 في المئة. وتراجعت الودائع بالعملات الأجنبية في الفترة المذكورة لتبلغ 93,9 مليار دولار بينما تراجعت الودائع بالليرة بقيمة 10,6 تريليونات ليرة لبنانية لتبلغ 56,8 تريليون ليرة في نهاية نيسان 2023. ومن جرّاء ذلك، ارتفعت نسبة دولرة الودائع من 73,4 في المئة في تشرين الأول 2019 الى 96,1 في المئة في نيسان 2023.

– قلّصت المصارف اللبنانية ديونها على القطاع الخاص الى حدّ كبير منذ بداية الأزمة بحيث انخفضت محفظة تسليفاتها من 54,2 مليار دولار الى 9,8 مليارات دولار، أي بمعدل 81,9 في المئة. ويشكل سداد القروض 62% من تقلّص الودائع في السنوات الثلاث الماضية. وقد تراجعت التسليفات بالنقد الأجنبي بقيمة 29.2 مليار دولار بينما تراجعت التسليفات بالليرة اللبنانية بما يعادل 10,5 تريليونات ليرة في الفترة ذاتها. ومن جرّاء ذلك، ارتفعت نسبة دولرة التسليفات من 70,4% في تشرين الأول 2019 الى 90,7% في نيسان 2023.

-أما بالنسبة للسيولة الخارجية، فقد تراجعت ذمم المصارف اللبنانية على القطاع المالي غير المقيم من 8,4 مليارات دولار في نهاية تشرين الأول 2019 الى 4,1 مليارات دولار في نهاية آذار 2023. ونتج ذلك عن الاستخدام الكبير للسيولة الأجنبية من قبل المصارف اللبنانية لتلبية سحوبات الزبائن النقدية في بداية الأزمة، ولاحقاً عقب صدور تعميم مصرف لبنان رقم 158. فقد استفاد حتى تاريخه 180,976 عميلاً من التعميم 158 بقيمة إجمالية قدرها 1,8 مليار دولار، نصفها بالدولار دفعت من قبل مصرف لبنان والمصارف.

رنى سعرتي – نداء الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى