اقتصاد

خطّة مصرفية لحلّ مشكلة الودائع بالدولار؟!

لم يكن ظهور الفجوة المالية في مصرف لبنان وتوسّع ارتداداتها السلبية على مجمل النشاط النقدي والاقتصادي، انكشافاً لواقع مالي ومصرفي خطير ومزرٍ فحسب، بل أتى تتويجاً لمسار سياسي وثقاقة حكم، أمعنت في استهلاك موجودات مصرف لبنان واحتياطاته بالعملات الصعبة المكوّنة بغالبيتها من ودائع المصارف لديه والمقدّرة بنحو 81 مليار دولار.

هذا المسار أنهك مصرف لبنان وأفلس معه المصارف، إما باستنزاف موجوداتهما وأموالهما الخاصة، أو بفقدان كلي للثقة العريقة بالقطاع المصرفي اللبناني التي كان يتغنى بها المصرفيون بعدما تبخرت ودائع اللبنانيين والمودعين العرب.

بعد نضوب السيولة في مصرف لبنان، واستسلام الدولة أمام الانهيار، وتهربها من تحمّل المسؤولية حول استهلاكها المفرط للودائع، طرحت مشاريع حلول وخطط متعددة قصيرة وطويلة الأجل، هدفت بمعظمها إلى بناء خريطة طريق تؤدي إلى إعادة الودائع إلى أصحابها، وعودة الانتظام المالي إلى موازنات المصارف وإعادة تفعيل دورها ووظيفتها في خدمة الاقتصاد اللبناني.

غالبية الخطط، وبينها مشاريع الحلول التي تسربت من أروقة المراكز الرسمية والاجتماعات الحكومية واللقاءات السياسية، آلت بمعظمها إلى الأدراج أو الرفض، إلا أن قاسمها المشترك (الخطط والحلول) هو تحييد الدولة أو إبعادها عن تحمّل أي مسؤولية تجاه مواطنيها الذين نكبهم فقدان جنى أعمارهم ومدخراتهم نتيجة تقاعسها عن اتخاذ أي إجراءات إصلاحية وإمعانها في “شفط” ودائعهم دون رادع.

بين الكثير من الخطط التي طرحت، كان لأهل الكار المصرفي مساهمة في طرح مشاريع حلول تؤدي وفق ما يرونها الى ثلاثة أمور أساسية، أولها إعادة نحو 80% من الودائع المصرفية فوراً الذين ينتمي غالبيتهم الى الطبقة الوسطى التي يحتاج إليها الاقتصاد بقوة لإعادة تشغيله، وثانيها إبقاء المصارف على قيد الحياة وإشراكها في معركة النهوض، والأمر الثالث إعادة رسملة مصرف لبنان، وإبقاء لبنان على خريطة الأسواق المالية العالمية.

عضو مجلس إدارة جمعية المصارف سعد أزهري كانت له مساهمة في السياق، إذ طرح من خلال الخطة التي طرحها رؤية مستمدة من خبرته المصرفية والمعطيات العلمية التي استند إليها ومنها تقارير لشركة ألفاريز ومارسال، وصندوق النقد الدولي، ومركز هارفارد للتنمية الدولية، وعدد من الخبراء اللبنانيين، إضافة الى قانون النقد والتسليف. ومع اعترافه الجريء بأن ليست جميع مصارف لبنان “مثالية”، يؤكد أن غالبيتها لها القدرة والإمكانيات والإدارة الرشيدة التي تؤهلها للعمل مع الدولة ومصرف لبنان لسد الفجوة المالية المحققة في “المركزي” شرط أن لا تتحمّل المصارف، كما يسعى البعض، الخسائر المتراكمة بمفردها نتيجة إسراف الدولة في الاستدانة.

لماذا لا يمكن للمصارف سداد الودائع؟
الأزمة نتجت عن تمادي ثلاثة أفرقاء في شراء الوقت، الدولة، والمصرف المركزي ومعهما المصارف، فيما الوقت لم يعد لصالح أي فريق منهم، والبلاد تحتاج بصورة طارئة إلى استعادة صحتها المالية والمحافظة على الاستقرار النقدي المكتسب منذ سنة.

من الجلي أن الحسابات التي تحدث إشكالية هي الودائع المقيّدة لدى المصارف البالغة 87.9 مليار دولار، والتي تقابلها بالطبع ودائع المصارف لدى مصرف لبنان البالغة 81.1 مليار دولار. لا تستطيع المصارف سداد ودائع العملاء لأن مصرف لبنان متعثر في الدفع، فهو يعاني من فجوة مالية قدرها 73.1 مليار دولار، ناجمة في المقام الأول عن تبديد احتياطياته بالدولار الأميركي على أسعار الصرف/ الدعم والسياسات المالية غير المستدامة. علاوة على ذلك، يمكن تقسيم الودائع المقيدة، التي تشكل إلى الودائع التي تقابلها حسابات تصل إلى 100 ألف دولار، وتلك التي تقابلها حسابات تزيد عن 100 ألف دولار، وهي التي استفادت من الفوائد المفرطة التي أعطيت لحامليها، وتلك التي تم تحويلها إلى الدولار بعد تشرين الأول 2019.
مع ذلك، يقترح أزهري ثلاث آليات عمل أساسية ينبغي تنفيذها بالترتيب:
– تحديد وتسوية الحد الأدنى للودائع المضمونة التي تصل الى مبلغ 100 ألف دولار.
– إعادة هيكلة المصارف.
– إنشاء صندوق استرداد الودائع للودائع التي تزيد عن 100000 دولار.

وفي تفصيل الاقتراحات الثلاثة، يوضح أزهري أنه بغية تسوية الحد الأدنى من الودائع المضمونة التي تصل إلى 100 ألف دولار، يفترض في البدء، شطب الفجوة المالية التي يعاني منها مصرف لبنان، من خلال استبدال ودائع المصارف لدى مصرف لبنان بصافي السيولة الأجنبية لمصرف لبنان، باستثناء احتياطي الذهب، المقدرة بـ8000 مليون دولار (ما يعادل الأصول السائلة الأجنبية البالغة 9400 مليون دولار، ناقص الالتزامات السائلة الأجنبية البالغة 1400 مليون دولار). هذا المبلغ يمثل الصافي المتاح بالدولار لدى مصرف لبنان والذي يمكن استخدامه لتلبية ودائع المصارف. على هذا النحو، يمكن الافتراض أن صافي أصول المصارف بالدولار سيشمل أيضا 15% من القيمة الاسمية لليوروبوندز، بالإضافة إلى جميع القروض بالدولار باستثناء المؤونات. ومع وصول أصول المصارف إلى 23.138 مليار دولار، سيكون النظام المصرفي قادراً على الوفاء بمدفوعات الودائع التي تصل إلى 100 ألف دولار. ما يميّز هذه العملية هو أنها “تمكّن المصارف من تحرير هذه الودائع على الفور، التي تمثل 82% من الحسابات التي يملكها المودعون”. على نفس القدر من الأهمية، سيعيد ذلك الثقة المطلوبة بالقطاع المصرفي، وتالياً “إعادة تنشيط الوساطة المالية”. وبرأيه فإن هذه العملية ستخلصنا من “الحمل” المتمثل في الفجوة المالية التي يعاني منها مصرف لبنان، وتسمح للنظام المصرفي بفتح صفحة جديدة نحو تطور مالي أكثر صحّة. وبهذا ستصبح عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي أسهل كثيراً الآن، لأن ميزانيتها العمومية تقلصت بأكثر من 75%، ونتيجة لذلك ستكون حقوق الملكية المطلوبة أقل بكثير. هذا يعني أن إعادة رسملة المصارف لا ينبغي أن تكون عملية شاقة وطويلة، إذ تحتاج المصارف إلى إعادة الرسملة حتى تتمكن على الأقل من دفع حسابات تصل إلى 100 ألف دولار. إن لم يكن الأمر كذلك، فستتم تصفيتها ووضعها تحت الحراسة القضائية لدى مصرف لبنان، أو شراؤها أو دمجها مع مصارف أخرى.

وبالنسبة لإنشاء صندوق استرداد الودائع (DRF) الذي سيُعنى باسترداد معظم الودائع التي تزيد قيمتها عن 100 ألف دولار، يقترح أزهري أن يُموَّل صندوق استرداد الودائع (DRF) بشكل مشترك بين المصارف ومصرف لبنان والدولة، وفق الآتي:

– 30% من الأرباح الموزعة للمصارف، من خلال ملكية صندوق استرداد الودائع (DRF) بنسبة 30% من أسهم المصارف التي لا يحق لها التصويت. وإذا استعيدت الثقة المصرفية وانتعش النموّ القائم على الإصلاح، فقد تكون هذه الأرباح كبيرة.
– 2.5 مليار دولار كمساهمة من الدولة لإعادة رسملة مصرف لبنان.
– حصة من عائدات النفط والغاز المستقبلية التي تُقدّر بما لا يقل عن 300 مليار دولار.
– حصة سنوية من إيرادات أصول الدولة. ولهذا الغرض، يمكن إنشاء شركة لإدارة الأصول لإدارة هذه الأصول بطريقة صحيحة. بما أن إيرادات أصول الدولة وصلت إلى 1.5 مليار دولار في عام 2019، يتوقع أن تكون هذه الإيرادات أعلى بكثير مع الإدارة الأكثر كفاءة.
– فرض إيرادات ضريبية على الأرباح التي يحققها المدينون الذين دفعوا قروضهم بالدولار بأسعار الصرف الرسمية، والتي كانت أقل بكثير من سعر صرف السوق. وقد ناقشت السلطات النقدية هذه الضريبة.

بنفس القدر من الأهمية، سيصدر صندوق استرداد الودائع (DRF) أسهماً تناسبية للمودعين تساوي قيمة ودائعهم في المصارف، على أن يجري إدراجها وتداولها بسعر بورصة بيروت بما يوفر سيولة فورية لحامليها وفرصاً للاستثمار من قبل المساهمين المحليين والأجانب.

ثمة ملاحظات إضافية حاسمة، يوردها أزهري وتتعلق بـ”الاحتفاظ بجميع الودائع بخلاف الودائع غير المقيدة خارج الميزانية العمومية. أما بالنسبة لتلك التي تم تحويلها إلى الدولار الأميركي بعد تشرين الاول 2019، فتتمثل إحدى الطرق التي جرت مناقشتها كثيراً، في سدادها تدريجًا بالليرة اللبنانية بسعر صرف معتدل أقل من سعر السوق (ما يُسمّى لولرتها)، إضافة الى ذلك يمكن حذف الودائع المتعلقة بالفوائد الفائضة التي تزيد عن حد معيّن”.

يدرك أزهري أن إعادة هيكلة المصارف وصندوق استرداد الودائع ليسا بالامر السهل ويتطلبان إجماعاً يجب العمل عليه، لكنه لا يجد أنهما صعبا التحقيق، “خصوصاً أننا لا نملك رفاهية الوقت. نحن بحاجة ماسة وأخيرة إلى اعتماد وتنفيذ خطة قابلة للتنفيذ، فوجود أي خطة أفضل من عدم وجودها”. ولأننا لا نريد أن يكون “الحل المثالي عدواً للحل الجيد والعملي”. كذلك، الأمر الأكثر أهمية هو أن عملية وتسوية الحد الأدنى للودائع المضمونة التي تصل الى 100 ألف دولار يجب أن تكون سهلة التنفيذ وفي وقت قريب جداً، ولا بد أن تكون تداعياتها على تعزيز الثقة بالمصارف كبيرة. يمكن لذلك أيضاً تمهيد الطريق لتنفيذ أكثر سلاسة لإعادة هيكلة المصارف وإنشاء صندوق استرداد الودائع التي تزيد عن 100 ألف دولار. كذلك، لم يحدد الاقتراح أي نسب لتوزيع تغطية خسائر الفجوة المالية لمصرف لبنان، كما تظهر الكثير من الأبحاث، وترك توزيع الأعباء مرناً، بحسب القدرات والضرورات، وقد دفعتنا ضرورة العمل على حلّ الأزمة الآن لذلك، على الرغم من أنها تأخرت للأسف أكثر من 4 سنوات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى