المصارف تمهّد لـ”نيو 17 تشرين”
تعود جمعية المصارف إلى الأسلوب القديم – الجديد: “إثارة الجلبة والبلبلة”.يوم أول من أمس، أصدرت الجميعة بياناً بدا أقرب إلى بيانٍ حربي منه إلى بيان مصرفي. أشار البيان إلى ما “تتعرض له المصارف من اعتداءات”. ومن جراء ذلك “لا تستطيع الإستمرار بمتابعة أعمالها وستضطر إلى العودة للتدابير السابقة”، وهو كلام استبطنَ تهديداً مباشراً وتهويلاً. ولا يمكن اعتباره كلاماً عاماً أو كلاماً لمجرد الحثّ أو الدفع صوب إنتاج حلول، لانه غالباً ما يستغل أي حدث في سياق تعزيز الشروط، ثم يُستتبع بإجراءات تقوم بها المصارف، وهو ما جرى فعلاً أمس حين طبّقت القول بالفعل في ظل استئناف الإقتحامات، معلنةً العودة إلى تطبيق الإجراءات الإحترازية بدءاً من اليوم وحتى إشعارٍ آخر. ودرجت العادة أنه عند كل مفصل سياسي أو مالي أساسي، تُكشّر المصارف عن أنيابها وتتحول إلى أداة لفرض أمرٍ ما أو لمحاولة فرضه، ما يزيل سمة البراءة عن أي فعل تقوم به.
أفصح نموذج عن ذلك ما حصل قبيل 17 تشرين 2019. تحاججت المصارف يومها بالإعتداءات الجارية على فروعها وردود الفعل من قبل المواطنين على سرقة أموالهم، فيما كان لافتاً أن الأجهزة الأمنية لم تحرّك ساكناً تجاه ما كان يحصل. ذهبت المصارف بعدها إلى إضراب شامل دام زهاء الشهر. أدى ذلك إلى إرتفاع سعر صرف الليرة أمام الدولار بشكلٍ جنوني، وأسفر عن شحّ العملة الخضراء من السوق. وأبشع ما حصل كان استغلال المصارف الإضراب لتهريب الأموال إلى الخارج. أهمّ ما نتج عن تلك اللحظة، أن حرّك الشارع ودفعه نحو الإنفجار بشكلٍ هستيري كرّس إرتفاعاً إضافياً في سعر الصرف، ووضع البلاد في مأزق وعلى حافة الإنفجار، وساهم في شلّها بشكل عام حتى قبل حلول “زمن الإغلاق الشامل” بفعل كورونا، وأهمّ ما حصل هو إنتاج كتلٍ ومجموعات تحت مسمّى NGOs تكاد تكون أقرب إلى لوبيات صغيرة تعمل في خدمة قوى أكبر.
في ما نتج عن خيار المصارف آنذاك، كان وضع السلطة السياسية أمام واقع مواجهة الشارع ضمن حالة فوضى تخللتها حالات عنف شديدة شهدتها البلاد للمرة الأولى بهذه الوتيرة، وما زلنا نعيش تداعيات تلك المرحلة إلى الآن. وكان ذلك الوضع نتيجة طبيعية عن حالة استعصاء وانسداد سياسي ومالي أسّسَ لإنقلاب مصرفي. أبرز ما أسفرت عنه أن أنتجت شارعاً مواجهاً لقوى سياسية معينة من بينها “حزب الله” وفي ما بعد إستُخدم في مواجهته، ومن ثم أنتج خطاباً زاد من حدة الشرخ السياسي، ووفّر عوامل استثمار سياسي واضح في ذلك الحراك، ثم أدى إلى تغيير منهجي في سلوكيات بعض القوى السياسية والشعبية.
اليوم يتكرّر المشهد نفسه ولو بصيغة مختلفة. تحدث الإقتحامات فجأةً للمصارف من دون سابق إنذار بعد ركودٍ دام أشهر، فيما تؤكد مصادر الأجهزة أن ما من مؤشرات سبقت حصول العمليات الجديدة، ما يضعها في دائرة الغموض والإلتباس، لاسيّما وأن بعضها كان عبارة عن عمليات سطو مغطاة بذريعة استرداد وديعة. والتجربة اللبنانية التقليدية حافلة ومفيدة في قراءة ما يجري خلف الكواليس. فلا حركة ذات طابع ما، تحدث بمعزلٍ عن تحريكٍ أو دفع أو دعم من جهة معينة. وفيما لو حصل ستجد من يستثمرها ويستغلها كما يحصل الآن بالضبط. ويصبح الأمر مدار شك إذا ما كانت الساحة مفتوحة على شتى صنوف الأجهزة الخارجية والإستثمارات الداخلية والأزمات.
أسوأ ما في الامر والذي يفتح باب التكهنات والأسئلة، أن الإقتحامات أتت في وقتٍ حرج كانت فيه تقارير الأجهزة لا توحي بأي حركة مماثلة. ثم أنها أتت في توقيت يسوده نزاع مالي – سياسي يأخذ طابعاً عنيفاً حول مستقبل الوضع النقدي، بين ما يُسمّى “حزب السلطة” المؤلف من الأعضاء التقليديين في المنظومة، وبين حزب المصرف المؤلف من حاكمية مصرف لبنان وتوابعها من مصارف وقضاة ونواب ووزراء ورجال سياسة وأمن ونافذين، ويحصل أيضاً في زمن وقوفنا عند “كوع” خطير يتمثل بالنقاش الضبابي السائد حول مستقبل مصرف لبنان. وإن زدنا الشرح لقلنا إنه يأتي في توقيتٍ سياسي حساس وسط شغورٍ رئاسي وحكومة مبتورة ومصرف عائم على أزمة وجيش يعيش هو وقيادته أوضاعاً حرجة وقضاء لا يقل سوءاً مقارنة بغيره، والأهم إنسداد سياسي يتجلى بفقدان الداخل القدرة على التأثير أو الفرض في حلول ذات طابع سياسي، وعدم قدرة الخارج على الوصول إلى تفاهمات واضحة أو إنضاج مسار أو “ديل” واضح يساهم في إنهاء الشغور الرئاسي واستطراداً يضمن الثمن، وأحد وجوه الإستعصاء الحالي ما خلّفه مضمون بيان الإجتماع الخماسي الأخير الذي عقد في الدوحة، والذي ترك الأزمة مفتوحة على مصراعيها، وأخرج التفويض الممنوح لفرنسا في تأمين حل، وجعل الحل مشتركاً بين الجميع، وأطاح بالمبادرة الفرنسية في شكلها السابق وذهب يطرح بحث حلول أخرى وعقوبات وتهديدات بعقوبات وإجراءات بحق “المعرقلين”، وعادَ بنا إلى مربع “البيان الثلاثي” بين السعودية فرنسا والولايات المتحدة المعلن بتاريخ أيلول من العام الماضي.
وإن تعمّقنا أكثر، يصبح بيان جمعية المصارف يحمل على توفير ظروف الإستغلال من جهاتٍ شتى. فالمصارف أصلاً منخرطة في نزاعٍ مع نواب حاكم مصرف لبنان والحاكمية ككل، من جراء التلويح الدائم من جانب هؤلاء بوقف عمل منصّة “صيرفة”، أي عملياً قطع باب الرزق الوحيد للمصارف وعمولة الـ5% المحصلة جراء كل عملية صرف، إضافة إلى تناغم “نواب الحاكم” مع طروحات البنك الدولي بما في ذلك توحيد سعر الصرف وإلغاء المنصات ودمج المصارف وتصغير عددها. تظن جمعية المصارف أنها باتت أمام مواجهة مفروضة عليها، وليس من حلٍ إلاً في المنازلة.
في خلاصة كل ما تقدم، تبدو الأمور ذاهبة إلى تسخين للأجواء اللبنانية. وفي لحظة الإشتباك، يصبح أي حدث باباً للإستثمار. والتجربة اللبنانية علّمتنا أن ما من حلول سياسية تأتي إلاّ بعد تسخين ميداني.